المرة الثانية

TT

فقط، بعدما تمضي على الأحداث الكبرى سنوات، أو عقود، نعرف أن الإحجام أحيانا خطأ في حجم التهور. تلكؤ باراك أوباما في اتخاذ القرار جعله يتأخر على نحو خطر، في مواجهة ما تولد عن الصراع من قوى تُعرف الآن باسم «داعش». لا تستطيع أن تدرس من «جميع الجهات» من أي جهة ستحاول إنقاذ الغريق الذي يهوي أمامك. أحد الفلسطينيين قفز إلى خزان مياه وأنقذ طفلا يغرق. وبعد الإنقاذ تبين له أمران؛ الأول أن الطفل إسرائيلي، والثاني أنه، المنقذ، لا يعرف العوم حتى في كوب.

باراك أوباما واجه الأحداث بعقدة فيتنام، فإذا به يغرق - ويُغرق العالم معه - في فيتنام أخرى. قبل أن يدخل أي رئيس أميركي جديد البيت الأبيض، يجد أن ذكرى فيتنام سبقته إلى السرير. لكن كل رئيس يكتشف، غالبا بعد فوات الأوان، ما اكتشفه السبّاح الفلسطيني المُنقذ، وهو تصرف أولا، لأن الأوان يفوت في لحظة. جورج بوش الابن، دمر العراق - وأميركا - بتهوّره وإصراره على الحرب. وجورج بوش الأب، كلف العالم في تلكؤه أزمة هائلة.

العام 1961 هدد الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم باحتلال الكويت، فما كان من البريطانيين إلا أن أنزلوا قوة ضخمة هناك. وأدرك قاسم أنه لن يواجه قوة كويتية ناشئة، بل قوة دولية - عربية كبرى، فأعطى الأوامر للقطعات العسكرية بملازمة الثكنات.

في يوليو (تموز) 1991، أي بعد 30 عاما، لم يكن لدى أحد شك بأن صدام حسين سوف يحتل الكويت في لحظة وشيكة. الأقمار الأميركية وطائرات الأواكس كانت تلتقط صورا شديدة الوضوح للاستعدادات. ولذلك، اعتقد العالم أن بوش سوف يرسل قوات أميركية إلى الكويت ليمنع الغزو من الأساس. الذي حدث أن أزمة طاحنة قد قامت، أعقبتها حرب طاحنة كلفت أميركا والكويت والخليج والعالم العربي خسائر لا تحصى.

الأرجح أن أوباما تردد لأنه يريد أن يتحاشى مواجهة مع إيران وروسيا. لكن ما الذي يحدث الآن؟ وبعد ماذا؟ إنه يقصف في سوريا والعراق، بصرف النظر عن مواقف ومشاعر روسيا وإيران، وبصرف النظر أيضا عن موقف وتصريحات دمشق حول «السيادة» والتنسيق. الفارق أنه في هذا التأخير، أصبحت كلفة الحرب على «داعش»، نسبيا، في حجم كلفة تحرير الكويت. لكن الحرب اليوم سوف تكون أطول وأكثر تعقيدا، وما من أحد يعرف كيف ستنتهي، ولا أين. وأدى موقف أميركا المتراجع، والمواقف الدولية المعاكسة، إلى مأساة بشرية أكبر وأعمق بكثير من احتلال الكويت. عندما يقال إن التاريخ يكرر نفسه، ينسى الناس دائما بقية الجملة التي قالها كارل ماركس: «لكن في المرة الثانية بطريقة مثيرة للسخرية».