سورية: ضباط دمشق ضربوا الوحدة مع مصر

TT

تتباهى دمشق بانها «قلب العروبة النابض». لكن مدينتي وحبيبتي حملت في عام 1961 خنجرا مسموما وغرزته في القلب العربي. فقد طعنت أمل العرب في الوحدة وصنعت الانفصال.

كان الانقلاب الذي انهى حياة «الجمهورية العربية المتحدة» من صنع ضباط دمشق. كانوا مجموعة غير مسيسة او متحزبة من الضباط السنة الشباب في اواسط الثلاثينات من العمر، لكنهم كانوا جميعا من ابناء الطبقة الوسطى والبورجوازية الدمشقية الصغيرة التي لحق بمصالحها التجارية ضرر فادح نتيجة لاخطاء السياسة الاقتصادية المنغلقة.

ما زال القلب العربي بعد اربعين سنة يقطر دما من جرح النصل الدمشقي، غير ان ذروة المأساة انطوت على ذروة الطرافة. فقد كان الانقلاب سخرية بالغة من هشاشة المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة في مصر وسورية.

كان الانقلاب من صنع ضباط دمشق الذين وثق بهم المشير وقربهم اليه ووضعهم على رأس القطعات المدرعة في الجيش بعد ابعاد ضباط الريف المسيسين والمتحزبين، بل كان قائد الانقلاب العقيد عبد الكريم النحلاوي مديراً لمكتب عامر ويحمل لقب «كاتم اسرار المشير»! لم يكن جمال عبد الناصر يستحق كل هذا الغدر. ولم تكن كبرياؤه تسمح له بأن يحيط مشيره في دمشق بدبابات ومدرعات تَقِيْهِ مما تحمله ليالي دمشق الحبلى عادة، بالمكر في جيش احترف هواية الحكومات والانظمة.

كان الانقلاب مفاجأة كبيرة للمشير عامر، فقد كان ظنه في الوهلة الاولى ان الانقلاب من صنع عبد الحميد السراج. وكان عامر مشغولا في سورية بقضم نفوذ السراج الذي كان يمسك بدوره بزمام «الاتحاد القومي» حزب السلطة الناصرية في سورية.

لكن السراج كان قد اُبعد بعد الوحدة عن موقعه المؤثر كرئيس للمخابرات العسكرية، ثم ابعد عن رئاسة المجلس التنفيذي (رئاسة الحكومة) واستدعي الى القاهرة وسمي نائبا لرئيس الجمهورية، فيما اطلقت يد عامر كليا في سورية.

ومع ذلك كله، فقد ظل السراج وفيا ومخلصا لجمال عبد الناصر وللوحدة. فكان بعيدا عن الانقلاب، بل كان ضحية له ايضا مع عامر فقد سجنه الانفصاليون فترة. وما زالت مصر بعد رحيل عبد الناصر وفية له ايضا. فهو مقيم فيها منذ نحو اربعين عاما.

لم يحسن ناصر وعامر التصرف بحسم وسرعة فقد بدا كلاهما ساذجا بطيئا، بل خائفا امام حرفة السوريين. كان في استطاعة عبد الناصر التوجه فورا الى دمشق لانقاذ مشيره واستغلال تردد الانقلابيين وخلافاتهم.

وكان في استطاعة عامر الاستجابة لمطالب الانقلابيين في وقف تحكم ضباط قيادته المصرية في الجيش السوري، والتعهد بالتخفيف من القيود الحكومية على حركة الاقتصاد السوري.

بدلا من ذلك كله، فقد بدأ الاعلام القاهري من صحافة واذاعة حملة اتهامات هستيرية على الانقلابيين بلغة استفزازية واهتياجية. وقابلتها حملة مرتجلة في الاذاعة والصحافة السورية بلغت من الصفاقة درجة الزعم بان عبد الناصر من اصل يهودي.

وللامانة مع التاريخ والحقيقة، استطيع ان ابرئ بضمير مرتاح القادة الانقلابيين من الارتباط بجهات اجنبية. وعندما تبين لهؤلاء الضباط الشباب ان كبيرهم في العمر المقدم حيدر الكزبري كان على ارتباط بدولة عربية مجاورة سارعوا الى تحييده وتسريحه.

ولدي دليل آخر على شهادة البراءة هذه، فقد حل الندم بضباط دمشق وادركوا بعد شهور قليلة فداحة ما صنعوه بعبد الناصر ودولة الوحدة. ووجدوا ان الديمقراطية التي بشروا بها اقامت دولة «انفصالية» يتربع في برلمانها وحكوماتها غلاة اهل اليمين من بورجوازيين واقطاعيين وعشائريين واخوان اصوليين.

وفي لحظة نادرة من لحظات صحوة الضمير، ركب الانقلابيون جناح الليل، فاودعوا رئيس الجمهورية ناظم القدسي سجن المزة الرهيب وذهبوا الى القاهرة باكين امام جمال عبد الناصر طالبين اعادة الوحدة، وواضعين انفسهم في تصرفه يفعل بهم ما يشاء.

وفي قرار من قراراته الكارثية، رفضهم عبد الناصر وقال لهم ان الوحدة التي ذهبت بانقلاب لا تعود بانقلاب. كان في استطاعة ناصر اعادة الوحدة ورد الاعتبار لكبريائه الجريحة. لكن القيادة السياسية المصرية كانت قد اتخذت قرارا بعدم الاقدام عمليا على وحدة عربية بعد التجربة المريرة مع سورية.

وفي التقييم التاريخي، كان الانقلاب السوري خطيئة كبيرة. فالنضال من اجل تصحيح الاخطاء يجب ان يكون سياسيا وسلميا ومن داخل الدولة والمجتمع مهما كانت العوائق، ومهما كانت شخصية عبد الناصر مهيمنة واجهزته البوليسية متسلطة، ومهما كان نظامه بعيدا عن الديمقراطية.

لقد صنعت دمشق الانفصال ولقيت جزاءها العادل، فرأت سريعا سقوط نظامها الديمقراطي المشوه للحرية السياسية والمتراجع عن المكاسب الاجتماعية والمعادي للوحدة القومية، ثم عاشت هي بالذات في اسر انظمة اكثر قسوة عليها واشد انغلاقا وبوليسية من نظام ناصر.

وبلغة طائفية بحتة، ينطوي بسقوط نظام الانفصال عام 1963 دور ونفوذ ضباط الغالبية السنية في المؤسسة العسكرية السورية. فلم تعد الكليات العسكرية مفتوحة امامهم، والقلة القليلة التي دخلتها كانت رمزية وخدم ضباطها في المهمات الادارية كالمحاسبة والتموين، فيما سيطر ضباط الريف كليا على القطعات العسكرية القادرة على اسناد النظم السياسية المفروضة بقوة الامر الواقع.

وايضا في التقييم السياسي التاريخي، فلم يكن ضباط السنة كتلة واحدة متضامنة. ولم تكن السياسة في عصرهم تجري وفق الوان الطيف الديني ومذاهبه. وانصافا لهم لم يدر في خلدهم الامساك بالجيش على اساس طائفي ومذهبي، انما دورهم كان تقسيميا، فقد ادى تدخلهم هم وضباط الريف في السياسة بالقوة الى استنزاف سورية وهدر طاقاتها المادية والبشرية وخنق ديمقراطيتها الوليدة واعاقة بناء وتدريب قوات مسلحة على مستوى المقارنة مع القوات الاسرائيلية.

وأليس من الطرافة المرة ايضا ان يفرض تفرد ضباط الريف نوعا من الاستقرار السياسي والامن المدني النسبي اللذين عاشتهما سورية بعد سلسلة الانقلابات العسكرية العاصفة؟ كان الانتماء للطائفة اكثر امانا وضمانا وواقعية في ضبط الجيش وتحييده سياسيا من الانتماءات الرومانسية الاوسع لوطن او حزب او آيديولوجيا.! اعود لعبد الناصر، فاقول انه لو تقبل ندم ضباط الانفصال واعاد الوحدة لتغير مرة اخرى تاريخ العرب الحديث ووجه سورية السياسي. لكن قراره السلبي كان كالعادة كارثيا. وهكذا، فقد تخلت الناصرية عن جماهيرها وشعبيتها في العالم العربي، وعن مدها الوحدوي والقومي لتراهن بعد انفصال سورية على ماذا؟ لتراهن على اسوأ انواع الاشتراكيات، على الاشتراكية الماركسية.

انشغل عبد الناصر بتأميم مصر مسكونا بهاجس الريبة من اليمين المصري بعدما ضرب اليمين السوري دولته في سورية. ويبدو ان المشير عامر كان مؤيدا للتطبيق الاشتراكي في مصر ورافضا اية تجربة وحدوية اخرى مع سورية بعد المهانة التي تعرض لها شخصيا في دمشق.

وحكم التاريخ قاس على هذا المشير. فهو على طيبته لم يكن شخصيا ونفسيا وعسكريا على مستوى القيادة المطلوبة. وتطلب الامر هزيمته في السويس، ثم هزيمته في سورية، ثم هزيمته في سيناء ليتمكن عبد الناصر من ازاحته عن القيادة.

ويتجلى تصميم القيادة الناصرية على صرف النظر عن اية تجربة وحدوية عندما حاول البعث العراقي مصالحة البعث السوري مع عبد الناصر. فقد بدد عبد الناصر الوقت خلال المحادثات الماراثونية في القاهرة بالتهكم على عفلق والبيطار والسخرية منهما لانهما لا يبدآن عملهما اليومي مثله بقراءة صحف الصباح.

اتسمت السياسة الناصرية في الستينات العربية بسلبية شديدة. فقد نهج عبد الناصر سياسة الانتقام من الجميع، من ضباط الانفصال، ومن نظام الانفصال، ومن البعث القومي في سورية وفي العراق.

وعندما سقط هؤلاء جميعا، عاد عبد الناصر فعمد في قرار كارثي آخر الى عقد تحالف مشؤوم مع بعث الماركسية الطفولية في سورية! وكان الحلف غير الطبيعي كفيلا بالتعجيل بهزيمته العسكرية وبتصفية نظامه في مصر ايضا، وبانطواء الاماني القومية.