«شوربة» التناقضات السياسية والعقائدية في الانتخابات النيابية

TT

لن يمر اكثر من اسبوعين، ليكون للبنان مجلس نيابي جديد. فأبواب الترشيح اغلقت والمعركة التي يخوضها ما يقارب الخمسمائة مرشح للنيابة دخلت شوطها الاخير، يسودها جو من الحرية والتوتر، من الديموقراطية والشكاوى من المداخلات غير الديموقراطية. فمعظم المرشحين يتهمون معظم المرشحين الآخرين، والكل يتهمون الدولة، ويشكون من.. شيء ما، ولكن اين هي الحقيقة؟

هل الانتخابات «معلبة» و«موجهة» و«مطبوخة»، و«نتائجها معروفة سلفاً»، كما قيل ويقال (وكنا نحن من بين القائلين)؟ ام ان دمشق، بعد التغييرات التي حصلت فيها، اثر غياب الرئيس حافظ الاسد (والبعض يقول قبله)، آثرت الوقوف بعيدا، بعض الشيء، عن هذه المعركة الانتخابية اللبنانية، وترك السياسيين اللبنانيين «يقلعون اشواكهم بأيديهم»، مكتفية بالاطمئنان الى ان الاكثرية النيابية في المجلس الجديد، ستكون من الموالين لها او السائرين في خطها او المتمسكين بوحدة المسار والمصير، معها؟ بعض التحالفات واللوائح تدل على ان اليد او الرغبة السورية لم تكن غائبة (في الشمال مثلا). ولكن تحالفات او لوائح في دوائر اخرى تكذب هذا الاعتقاد.

هل هناك تدخل او توجيه من قبل ما يسمى، اليوم بـ«الاجهزة»، اي بمجموعة الضباط المقربين من رئيس الجمهورية الذين يحتلون مراكز امنية وغير امنية مهمة ونافذة؟ هذا ما يقوله اكثر من مرشح لم يحظ بدعم من قبل هذه «الاجهزة» لدخول لائحة قوية في منطقته، او رأى من وراء تأليف هذه اللوائح، «يدا عليا». ولكن المراجع الحكومية العليا وهذه الاجهزة تنفي وتكذب هذه الاقوال. كما ان الشاكين من تدخل الاجهزة او انحيازها، لم يقدموا دلائل فاضحة او ثبوتية كافية عنه. ثم ان المعيار الحقيقي للتدخل «او تزوير الارادة الشعبية، هما: يوم الانتخاب وعملية فرز الاصوات. وما لم يثبت التزوير والضغط والتدخل بشكل علني ومفضوح، (يدينه المجلس الدستوري الأعلى لاحقاً)، تبقى الشكوى من تدخل الدولة واجهزتها، غير جدية، او نسبية.

وهناك، بطبيعة الحال، اعتراض المثقفين و«المثاليين» على المظاهر والممارسات «اللاديموقراطية» في هذه الانتخابات، ونعني: دور المال الأساسي في جدية الترشيح وفي تأليف اللوائح، وتقسيم الدوائر الانتخابية المناسب لبعض المرشحين والاحزاب والمضر بالبعض الاخر، ونظام الدوائر الكبيرة الذي «يبعد» المرشح عن ناخبيه (بينما الدائرة الفردية اصدق تمثيلاً للارادة الشعبية)، وسن الاقتراع واقتراع الناخبين بعيدا عن اماكن سكنهم او عملهم، وتفاوت الفرص بين المرشحين في الاعلام والاعلان الانتخابيين. ان هذه المعطلات لديموقراطية الانتخابات تشوب الانتخابات اللبنانية (وغيرها من الانتخابات في العالم) وكلما حررت العملية الانتخابية او حق تمثيل الشعب، منها، تصححت او صحت ديموقراطية الانتخابات. ولكن هل هناك بلد واحد في العالم، خال من هذه المعطلات؟ هل من انتخابات مثالية، ديموقراطيا وتمثيليا، واحدة في العالم ام في التاريخ؟ بل ـ ولعله سؤال لم يطرح بعد كما يجب ان يطرح ـ: هل تؤدي انتخابات نيابية مثالية وديموقراطية، مائة في المائة، الى قيام مجلس نيابي فيه اكثرية تنبثق عنها حكومة قادرة على الحكم؟ ام تقود الديموقراطية والحرية المطلقتان الى مجلس بدون اكثرية او الى حكم غير مستقر، او مشلول؟

لا نقول هذا تبريرا لهذا التدخل او لذاك التوجيه، ولا دفاعا عن المتدخلين والموجهين، ولكن لتقرير واقع راهن وحقائق مؤلمة. فالترشيحات الانتخابية انما تعكس حقيقة الواقع الوطني «الضائع» والواقع السياسي والحزبي الممزق والمشتت، في لبنان، بعد عشر سنوات من انتهاء الحرب فيه وعليه وبين ابنائه. وهو واقع «ألصقت» وحدته الوطنية بصمغ ما سمي بـ«اتفاق الطائف»، ولكن المصالحة الحقيقية بين ابنائه وطوائفه، لم تتم، بعد. ولن تتم هذه المصالحة الا اذا حصل اتفاق وطني جديد بين ممثلين حقيقيين لكل ابنائه وطوائفه واحزابه (او اكثريتها، على الاقل)، على مشروع وطني واقتصادي جديد. وهذا ما لم يتحقق بعد رغم كل التصريحات والمواقف الايجابية. اما الواقع السياسي فهو مؤلف من زعامات عائلية وشخصية، تقليدية، لم تقض الحرب عليها (بل جددت الحنين اليها، كما قال وليد جنبلاط مؤخراً)، ومن احزاب عقائدية، اوصلتها مشاركتها العسكرية في الحرب، والدعم السوري لها بعد الحرب، الى المجلس والمشاركة في الحكم، فتحولت الى قوى سياسية وحزبية لبنانية، تمارس السياسة والنيابة والحكم، تماما كما كانت تمارسها القوى والزعامات السياسية التقليدية (الرجعية، في نظرها)، التي حلت في الحكم محلها.

منذ انتهاء الحرب، وحتى مؤخراً، كان الرأي العام السياسي ـ والوطني ـ في لبنان منقسما الى فريق حاكم وموال ومؤيد في المطلق لسورية وفريق معارض للحكم او الحكومة وللوجود السوري المهيمن وفريق ثالث معتدل او متحفظ في موالاته او معارضته. فريق منتصر ومستفيد، وفريق محبط ومبعد او مهمش وفريق ثالث منكمش على نفسه، حرصا على كرامته او خوفا على مصالحه. ولكن الامور تغيرت بعض الشيء، واستمرت في التغير، بعد انتخاب الرئيس لحود، وبعد انتقال «الملف اللبناني»، من يد الى يد اخرى في دمشق. ولا سيما بعد الانسحاب الاسرائيلي من لبنان وبعد غياب الرئيس حافظ الاسد. واذا كنا، اليوم، نشهد وليد جنبلاط يستعيد علاقات بيت جنبلاط بمسيحيي الشوف وجبل لبنان، متذكرا علاقات جدته الست نظيرة بجد عميد الكتلة الوطنية الحالي، الرئيس الاسبق للجمهورية، اميل اده، او رأينا حلفا «دستورياً ـ شهابياً»، يتجسد في لائحة مرشحين عن دائرة كسروان ـ جبيل، او تأملنا في تحالفات «لا تركب على قوس قزح» (وصف شعبي لبناني لكل ما يبدو عجيبا غريباً)، بين مرشح يساري او مرشح اقطاعي هنا، او بين مرشح كتائبي ومرشح قومي ومرشح «شهابي»، سابقا او «كتلوي»، هناك، او بين مرشح لحزب ديني ومرشح لحزب علماني ومرشح «مليونيري، هنالك، فذلك ان اللعبة السياسية «فلتت» من ايدي الجميع، او تخلت الاصابع الكبيرة التي كانت تشد خيوطها، حتى الآن، عن تحريكها وتركتها تجري على اعنتها.

هل نستخلص من كل هذا، ان هذه «الشوربة» او «المخلوطة»، السياسية الانتخابية، هي الصورة العاكسة الحقيقية للواقع السياسي والوطني في لبنان، بعد تحرره من الاحتلال الاسرائيلي وقبل تحقيق السلام في المنطقة؟ اي واقع مستقر امنيا، واقل توترا وطنيا، ومتعدد القوى والاحزاب والتيارات السياسية المتناقضة؟ اي واقع حائر او ضائع او متحفز وخائف من خيارات وطنية وسياسية واقتصادية قريبة الاستحقاق او لا بد من استحقاقها، يوما؟ هناك من يقول بأن هذا التنوع وهذه التناقضات وهذا الخلط للأوراق السياسية وللتحالفات، انما هو دليل عافية سياسية وصحة وطنية وديموقراطية. ربما، لو كانت امام انظار اللبنانيين افاق جديدة ومؤملة مفتوحة. لو كان هناك حزب او تكتل وطني سياسي، يحمل مشروعا وطنيا ـ اقتصاديا اجتماعيا واعدا؟ لو كانت هناك نافذة مفتوحة امام السلام في المنطقة؟ لو لم يكن هناك دين عام مرهق؟ لو كان اللبنانيون يشعرون بأن لهم الحق او القدرة على تقرير امورهم ولا نقول مصيرهم؟

قد يكون جواب البعض على كل هذه التساؤلات ترديدا للقول المأثور: «كما انتم يولى عليكم». ربما. ولكن اين هي النخبة اللبنانية؟ اين هم المثقفون اللبنانيون؟ اين هم المتعلمون اللبنانيون الذين تصل نسبتهم بين السكان، الى درجة عالية؟ هل تخلوا عن حقهم في التفكير والريادة والتقرير الى الاحزاب العقائدية الدينية او الطائفية والمذهبية والى سياسيين من طلاب الوجاهة؟ ام انهم باتوا يؤثرون الصمت او الهجرة من وطنهم؟

هذه الانتخابات لن تغير كثيرا من تركيبة القوى السياسية والحزبية في المجلس النيابي. ولكن لبنان السياسي، بعد هذه الانتخابات لن يكون هو لبنان ذاته الذي انبثق عن اتفاق الطائف، وعاش من عام 1990 حتى اليوم. اما كيف سيكون، فهذا موضوع آخر.