(فخ العولمة) كتاب يهم النخب .. وصناع القرار

TT

ترليونات من كلمات الحرية، والتحرر، والتحرير، وحقوق الانسان، يبثها الاعلام: بدارا، أو نقلا عن المؤتمرات، وخطابات الساسة.. وعلى الرغم من ذلك، يشهد عصرنا هذا (طغيانا) عنيفا وشاملا، يسمى بغير اسمه، ويقدم في صورة مضيئة، مضادة لحقيقته المظلمة.. ويوصف هذا العصر بأنه عصر (المعلومات) و(الشفافية). وعلى الرغم من ذلك، يشهد هذا العصر (تضليلا) سياسيا وفكريا واعلاميا واسع النطاق. تضليلا لا يمارسه الدجالون التقليديون. بل هو تضليل تؤصله بحوث علمية!! وتفلسفه مؤسسات اقتصادية وسياسية، ويباشره قادة وساسة: «إن رؤساء حكومات مجموعة الدول الاقتصادية الكبرى السبع، قد جعلوا من شعار (لتكن العولمة انتصارا لمنفعة الجميع) المنار الذي يهتدون به في اجتماعهم في نهاية شهر يونيو من عام 1996».

فمن التضليل ان يقال: إن العولمة ـ بمفهومها السائد المعوج ـ هي لمنفعة الجميع. فالواقع الموضوعي المادي ـ في نطاقه العالمي ـ على الضد من ذلك.

والجملة الآنفة ـ المحفوفة بعلامات التنصيص ـ وردت في كتاب (فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاه).

وعلى غير العادة، نفرد هذا المقال لاستعراض هذا الكتاب الذي هو اهل لأن يقدم، ويستعرض، وأهل لأن يُشرك القراء في الاطلاع عليه، والتفكير الجدي في القضايا التي طرقها: بوضوح، وعمق، واستيفاء، وشجاعة.

مؤلفا الكتاب هما (هانس بيتر مارتين) و(هارالد شومان).. ويُلحظ ان هذا الكتاب طبع تسع مرات ـ في عام واحد ـ في المانيا.. وقد ترجمته الى العربية ونشرته سلسلة (عالم المعرفة) في الكويت.

والكتاب مُبهج حقيقة: مبهج لأنه حقق امنية عبرنا عنها في هذه الصحيفة من خلال مقال: (مطلوب نقاد عالميون لانحرافات الرأسمالية والعولمة).. ومبهج لأنه كتاب يدل على ان في البشرية من لا يزال يأبى ان يسير مع القطيع سيرا غريزيا، لا عقل فيه، ولا تبصر، ولا استقلال.. ومبهج لأنه يسهم في تحرير العقل البشري من اغلال الأساطير الجديدة التي يوشك العتو الرأسمالي والسياسي والاعلامي: ان يجعلها (حقائق علمية).. نعم. فالكتاب (نقد موضوعي) موسع ومركز وموثق لما عرف بـ(العولمة). والكتاب (عالمي) المضمون والهدف، إذ هو يتناول موضوعا عالميا يهم كل انسان. ثم هو كتاب (إنساني) النزعة، بحكم انه يدفع عن (الانسان) ـ بعقل ونبل ـ : الطغيان العالمي الجديد.

انتظم الكتاب قضايا عديدة، أهمها: أربع وهي: القضايا الاقتصادية والاجتماعية.. والسياسية أو الديمقراطية.. والاعلامية الثقافية. ونظرا للمساحة المتاحة، سنمثل لكل قضية ببعض امثال: (مع استعمال اسلوب تجميع النقط من كلام المؤلفين نفسيهما):

1 ـ العولمة الاقتصادية: «لقد صارت الأممية التي كانت فيما مضى من الزمن، الشعار الذي اخترعه القادة العماليون في الحركة الاشتراكية ليواجهوا به تجار الحروب الرأسماليين، صارت الأممية شعار الطرف الآخر منذ اجل ليس بالقصير. ففي الساحة العالمية هناك ما يزيد على 40 الف شركة أممية من كل الأحجام تبتز هذا العامل بالعامل الآخر، وهذه الدولة بالأخرى.. إن أممية رأس المال الجديدة تقتلع دولا بمجملها، وما تقوم عليه الدول من انظمة اجتماعية، من الجذور. اما بالنسبة للنموذج الألماني فانه حسب ما يقوله عالم الاقتصاد الأميركي (روديجر دورن بوش): سيطبخ وسيذوب شحمه بكل معنى الكلمة في المنافسة الدولية للشركات عابرة القارات.. وفي حين ترتفع اسعار الأسهم وأرباح المؤسسات بنسب تبلغ 10%، تنخفض اجور العاملين ورواتب المستخدمين وفي نفس الوقت تتفاقم البطالة بشكل مواز للعجوزات في الموازنات الحكومية.. ومنذ نهاية خطر الدكتاتورية البروليتارية، فان العمل جار على قدم وساق وبكل جدية واصرار على تشييد دكتاتورية السوق العالمية. وهكذا تبين فجأة ان الرفاهية التي تنعّم بها جمهور عريض من العاملين، لم تكن سوى تنازل اقتضته ظروف الحرب الباردة وحتمته الرغبة في عدم تمكين الشيوعية من كسب موقع قدم.. ومن الولايات المتحدة شمالا وحتى استراليا جنوبا ومن بريطانيا غربا حتى اليابان شرقا، ينخفض على نحو سريع المستوى المعيشي الذي تمتع به الجمهور العام في الأمم الرائدة في الاقتصاد العالمي. ويبدو في الأفق تسريح لجماهير غفيرة من العاملين كما يتضح من التقديرات. ان المانيا والاتحاد الأوروبي أضحيا فريسة للذئاب الجائعة في حلبة المنافسة الشمولية. وقد توصلنا الى اعتقاد مفاده ان البطالة ستهدد خمسة عشر مليون عامل ومستخدم آخرين في الاتحاد الأوروبي في السنوات القادمة، اي انها ستهدد عددا يكاد يساوي عدد المسجلين في صيف 1996 بصفتهم عاطلين عن العمل. ان كل واحد يشعر بآثار التحول، حتى اولئك الذين لا تزال فرص عمهلم تبدو آمنة حتى الآن. وأخذ الخوف من المستقبل ينشر ظلاله أكثر فأكثر. كما أخذ البناء الاجتماعي ينهار ويتحطم، ومع هذا يرفض غالبية المسؤولين تحمل المسؤولية، فتتظاهر الحكومات ومجالس ادارات المؤسسات بالحيرة مدعين انه لا ذنب لهم في ما يحدث.. وعلى ما يبدو فقد اطبقت مصيدة العولمة على فريستها على نحو لا مفر منه. فها هي حكومات أغنى وأكبر دول العالم تبدو كما لو كانت أسيرة سياسة لم تعد تسمح بأي توجه آخر وليس هناك مكان عانى فيه السكان من هذا التطور ما عاناه سكان الأم للثورة الرأسمالية المضادة على وجه الخصوص، اعني في الولايات المتحدة الاميركية.. انه انحدار بلا نهاية. ففي عام 1995 حصل اربعة أخماس مجمل المستخدمين والعمال الذكور في الولايات المتحدة الأميركية عن كل ساعة عمل، مبلغا هو، من الناحية الحقيقية، ادنى مما كانوا يحصلون عليه في عام 1973 بمقدار 11%. ويعني هذا ان المستوى المعيشي الفعلي قد انخفض بالنسبة للغالبية العظمى في العقدين الأخيرين. وها هو (ادوار لوتوك) ـ الاقتصادي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ـ يتحول من واحد من اكبر دعاة الحرب الباردة الى واحد من اكثر نقاد التوجه الاقتصادي الجديد شدة، فهو يرى ان ما تفرزه (الرأسمالية النفاثة) هو في واقع الحالة نكتة خبيثة. فما كان يزعمه الماركسيون قبل مائة عام من مزاعم خاطئة كلية انذاك، أضحى الآن حقيقة. فالرأسماليون يزدادون ثراء، والطبقة العاملة تزداد فقرا، وان المنافسة المعولمة تطحن الناس طحنا وتدمر التماسك الاجتماعي. ان اعظم تراجع حققه في الواقع (ستيفان راوش) رئيس الاقتصاديين لدى مصرف (ستانلي). فقد كتب يقول: (ان اعادة هيكلة الاقتصاد الاميركي تشبه ما يقوم به المزارعون البدائيون عندما يدمرون خصوبة التربة باضرام النار في الأراضي الزراعية التي يعيشون من غلالها، رغبة منهم في الحصول على غلة أعلى في الأمد القصير).. ثمة، فعلا، تحول تاريخي بأبعاد عالمية. ولكنه لم يعد التقدم والرخاء، بل صار: التدهور الاقتصادي، والتدمير البيئي، والانحطاط الثقافي».

2 ـ العولمة الاجتماعية، وهي ليست أحسن حالا من العولمة الاقتصادية.. يقول المؤلفان: «الجزء الأعظم من العالم يتحول، خلافا لتلك الجزر (الجزر المترفة) الى عالم بؤس وفاقة، عالم غني ببضع مدن كبرى فقط، وباحياء فقر وجوع هي الأخرى كبرى ايضا، ويسكنها مليارات من البشر لا يكادون يسدون رمقهم.. والآن، على وجه الخصوص، اي في هذا الزمن الذي صارت فيه مليارات البشر الموحدة تلفزيونيا، تتطلع الى تحقيق تطور يقتفي خطى النموذج الغربي: لم يعد اصحاب النموذج بقادرين، ولا حتى في بلدانهم ذاتها، على الوفاء بما تعهدوا به، ولم يعودوا قادرين على التحكم في التفاوت الاجتماعي المتزايد.. وفي المانيا كف ربع السكان على ادنى تقدير، عن التطلع الى الرفاهية. ان الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى تزداد فقرا بخطى وئيدة. ويترك هذا البلد شبيبته على وجه الخصوص تعاني من الاهمال والاحباط.. وقد كتب (ايتان كابشتاين): الاقتصادي الأميركي ومدير مجلس العلاقات الخارجية، كتب يقول: ان العالم يتجه دونما هوادة الى تلك المأساة التي ستقف حيالها الأجيال القادمة من المؤرخين حيارى يتساءلون عن سبب عدم تدبير اجراء بحقها في الوقت المناسب. ألم تلمس الطلائع الاقتصادية والسياسية العواقب التي افرزها التطور الاقتصادي والتكنولوجي؟ وما هي العوائق التي حالت دون اتخاذهم الخطوات اللازمة لتفادي ازمة اجتماعية شمولية».

3 ـ فاذا جئنا الى العولمة السياسية الديمقراطية، وجدنا الكتاب يقول: «تدوي صيحات بعض المراقبين السياسيين، المرهفي الاحساس محذرة من التحولات السائدة الآن في اكثر الديمقراطيات استقرارا حتى الآن: اننا نمر في ظرف يسبق عادة المرحلة الفاشية.. وبات واضحا ان اقتصاد السوق والديمقراطية ليسا الركنين المتلازمين اللذين يعملان بانسجام وتواؤم على زيادة الرفاهية للجميع. فالأمر الأقرب الى الحقيقة هو ان هناك تعارضا مستمرا بين كلا النموذجين. ولهذا السبب يكتسب التناقض بين السوق والديمقراطية، في التسعينات ايضا، قوة تدميرية تقض المضاجع من جديد».

4 ـ اما العولمة الاعلامية الثقافية، فانها تخبط في التيه نفسه: «ان الوعد بأن القنوات التلفزيونية الخمسمائة التي ستتوافر عليها كل عائلة، ستحقق في المستقبل التنوع المطلوب: هو وعد كاذب. ففي الواقع هناك قلة تهيمن على السوق. وتكتفي في الكثير من مناطق البث بصياغة برامجها واعادة صياغة ما استهلك منها بطريقة تضمن تغطية اكبر عدد من الفئات المستهدفة. ان ثمة جهودا خارقة تبذل لكي يتخذ العالم صورة واحدة. ولا ريب ان المحصلة النهائية لمثل هذا التطور ستكون في المجال الثقافي ـ كما قال الفنان الأميركي (كورت روي ستون) ـ : سيادة الصراخ والزعيق الأميركي بمفرده في العالم اجمع».

هذه خطوط رئيسة في كتاب (فخ العولمة)، في كل خط منها تفاصيل لم يتسع المجال لها.. وليأذن لنا القراء، ان استضفنا مؤلفي الكتاب، وان قدمنا لهما هذه المساحة: مائدة ضيافة. فالكتاب جد مهم، وحري باهتمام خاص، إذ هو نقض عاقل وواقعي وانساني لمفهوم العولمة المنحرف.. وتتبدى جدوى الكتاب ـ بوجه خاص ـ حين نعلم: ان مفهوم العولمة الذي نقده ونقضه، يراد له التسلل الى الأمم المتحدة لكي يأخذ (شرعية دولية) منها.. اي ان يبصم العالم كله، على ما يؤذيه ويشقيه ويتعسه ـ معنويا وماديا ـ في الحاضر والمستقبل.. ولكي لا يحدث ذلك، نقترح على صناع القرار في العالم من رؤساء دول ـ سيشاركون في اجتماعات الأمم المتحدة في اول سبتمبر القادم ـ ومن وزراء خارجية، ومن مسؤولين عن المؤسسات الاقتصادية، والثقافية، والاعلامية، والأمن الاجتماعي.. نقترح عليهم ان يقرأوا هذا الكتاب. ففي اللحظات الفاصلة: لحظات التحولات العالمية، يكون للرؤية الواضحة، والكلمة الناقدة الصائبة، ما ليس لسواهما.