من يحمي البشرية؟!

TT

أول جريمة وقعت على الأرض قتل الأخ لأخيه، وحين شاهد القاتل الأرض ترتوي بدماء القتيل، وأدرك فداحة فعلته، بكى، وشعر بالندم، بعدها توالت سلسلة الجرائم التي يقترفها الإنسان يومياً في حق أخيه الإنسان. لماذا تتفاقم نزعة الشر في أعماق الإنسان كلما ازداد مدنية؟! هل المدنية تتعارض مع الآدمية؟! هل الحضارات العريقة التي بناها الإنسان على مدى التاريخ أصبحت نسياً منسياً، نتيجة عبثه، وضياع قيمه، وتحرره من كافة أشكال الأخلاقيات التي تربى في أجوائها؟! هل نزعة القوة، هذا المارد الشره الذي يكبر كل يوم في دواخل البعض، أصبحت شعاراً يلوح به القوي في وجه الضعيف ليخضعه لأوامره، ويدفعه للانسياق خلف مطالبه؟! هل البشرية أضحت مهددة في أمنها؟! هل البشر تغيروا، وتحولوا إلى مخلوقات بدائية التفكير، على الرغم من كل مظاهر التقنية التي يعيشون في رحابها؟! هل العيب في الزمن، أم العيب فينا كما يقول أحد الشعراء؟! ماذا حصل، وماذا يحصل؟! هناك رعب أضحى يسحق الأفئدة ويسلبها راحة بالها، خوف يطبق على أنفاس البشر من كل شيء!! الهواء الذي يتنفسونه معبأ بالجراثيم، الفِراش الذي ينامون عليه زاخر بالأوبئة، الطعام الذي يهضمونه مشكوك في سلامته، الأنهار التي يشربون منها تتخللها السموم، الطريق الذي يسيرون عليه ملغوم، البيت الذي ينامون تحت سقفه مهدد بالانهيار. وكل يوم يعلن العلماء عن اكتشاف أمراض جديدة مستعصية، تهدد أرواح الناس بالهلاك، حتى أصبحوا مذعورين من أي شيء، بدءاً من الرياح التي تهب في غير موعدها، وانتهاءً بالأمطار التي تسقط في غير موسمها!! هناك علماء يفنون حياتهم لصنع الخير، وهناك من يتفنن منهم في اختراع ما يخدم الشر، وهناك عباقرة ندموا على ما اقترفت أيديهم، وحاولوا التكفير عن خطيئتهم بتقديم ما يملكون لصالح البشرية، مثل العالم الفيزيائي «الفريد نوبل»، مكتشف البارود، الذي أوصى باستثمار ثروته لكل من يقدم إنجازاً يفيد البشرية، واصبح المبدعون في كافة المجالات، يتنافسون على نيل جائزته العالمية. هل منعت هذه المواقف النادرة المضيئة، سيل الإبادات العشوائية التي تحدث في العالم؟! هل صحوة البعض ألجمت الهجمات البربرية التي تقوم هنا وهناك، أم أن تراشق السهام ما زال السلاح المضمون في يد المستبد؟! منذ أيام أحيت اليابان ذكرى إلقاء أول قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، اللتين سقط فيهما آلاف الضحايا، وكانت أول وصمة وحشية يسجلها العصر الحديث في حق البشرية، ويتم حدوثها عن سبق إصرار وترصد، ويستخدم فيها السلاح النووي لردع العاصين.

قبل سنوات انفجر المفاعل النووي بمحطة «تشيرنوبل» في روسيا، واضطر الخبراء وقتها للاعتراف بأن حوالي خمسة آلاف شخص سيموتون نتيجة تلوث الهواء، وتعرّض الحياة الفطرية من مزروعات وحيوانات للإشعاعات النووية. وقد ظهرت بالفعل في السنوات الأخيرة، أمراض خطيرة وتشوهات خلقية، على الناس الذين يقيمون في المناطق المحيطة بموقع الكارثة.

اليوم تحركت المواجع مرة أخرى مع حادثة غرق الغواصة الروسية النووية «كورسك» القابعة في قاع بحر «بارنتس»، التي وضعت النهاية لحياة 118 بحاراً كانوا فيها، وإعلان الخبراء عن تخوفهم من تسرّب الإشعاعات النووية من الغواصة الغارقة، وتأثيراتها المباشرة على تلوث المياه، التي ستنتقل تباعاً إلى الحيوانات البحرية ومنها إلى الإنسان، مما أدى إلى تفاقم المشكلة، وإلى مطالبة المتخصصين بانتشال الغواصة من قاع البحر. هذه الواقعة جعلت ملف التسلح النووي يطفو ثانية على سطح الخريطة الدولية، وتعتبر ألمانيا أول دولة تقوم بالتخلي عن صناعاتها النووية، وإغلاق محطاتها النووية لحفظ سلامة مجتمعاتها، والواجب أن تتكاتف جميع حكومات دول العالم الثالث، التي تستخدم اراضي البعض منها كمدافن للمخلفات النووية، في حث المنظمات الدولية الخاصة بحماية البيئة، على الضغط على الدول المالكة للأسلحة النووية، لوقف تجاربها النووية، والتخلص من أسلحة الدمار الشامل في جميع أرجاء العالم رحمة بالبشرية، ولضمان سلامة الأجيال القادمة.

في مصر عثر عامل على جسم صلب، اعتقد بداية أنه معدن نفيس سيحقق له الثراء، هذا الجسم الصلب تسبب في وفاته هو وابنه، وإصابة بعض أفراد الأسرة بأعراض مرضية، وقد بينت التحقيقات أنه يحتوي على نفايات إشعاعية تستخدم في الصناعات البترولية. كشفت هذه الحادثة الفردية، عن عدم توفر أجهزة تقنية في المستشفيات، لتشخيص الأمراض الناتجة عن التعرض للإشعاعات النووية، وعدم وجود أطباء متخصصين في علاج الحالات التي تصاب بالتلوث الإشعاعي، مما يوجب حث الجهات المسؤولة في العالم العربي، على فتح تخصصات في هذا المجال، بالمعاهد والكليات والجامعات.

من المعروف أن إسرائيل تملك أكثر من مائتي رأس نووية، وتقوم بدفن مخلفاتها النووية في حدودها المتاخمة لمصر، مما رفع حرارة الهلع من آثارها الخطيرة على المدى البعيد، خاصة أن هناك أعراضاً مرضية أخذت في الظهور بين بدو سيناء، حيث تؤدي التأثيرات الإشعاعية إلى تدمير نخاع العظام، والإصابة بسرطان الدم، والقضاء على الأجهزة البيولوجية في الجسم.

للأسف قضية التلوث البيئي التي تعاني منها معظم الأقطار العربية، لا تشغل حيزاً مهما في فكر المواطن العادي، ولا تشكل في وجدانه وعياً حقيقياً على الرغم من خطورتها، مما يستلزم من جميع المؤسسات العامة والخاصة تنشيط هذا الجانب لديه، بكشف الحقائق أمام ناظريه، وتدريبه على كيفية تفادي الأخطار المحدقة به، وتقديم الإرشادات الصحيحة له، التي تساهم في سلامة بيئته. لقد أشارت إحدى الباحثات المصريات الى أن هناك أكثر من ثلاثة ملايين طفل معاق بسبب التلوث البيئي، وهناك أكثر من أربعة ملايين طفل يموتون سنوياً بسبب مياه الشرب الملوثة. وهذا غيض من فيض لما يحدث في كثير من دول العالم الثالث، التي توجد في أدراجها، ملفات سرية حافلة بالفضائح البيئية، التي للأسف لا تلقى اهتماماً جاداً من قبل المسؤولين!! الإنسان خليفة اللّه في الأرض، وبعد كل ما قدمته له من أمان واستقرار، جحد بها وطعنها في ظهرها، وعبث بتربتها، وهتك طهارتها، وداس بقدميه على خيراتها غير آبه بما آلت إليه من وهن، وهي التي حملته في بطنها آلاف السنين، لم تتأفف منه يوماً، ولم تعترض على نزقه وتهوره، كانت دوماً كالأم الرؤوم التي تدعو لابنها بالصلاح رغم عقوقه وقسوته عليها وتماديه في إنكار فضلها عليه. لماذا لا يتعظ الإنسان، ويوقظ ضميره الذي شبع نوماً حتى علا غطيطه؟!