خلط الباطن والظاهر.. ومهارة الترابي في المراوغة

TT

نشرت «الشرق الأوسط» في عدد الأربعاء الماضي 23/8/2000 حوارا مطولا مع الدكتور حسن الترابي برع فيه كعادته في المراوغة والتدليس والتلبيس واضفى على نفسه الهالة التي يضخم بها ذاته، لكن مراكز الاشارات الحمراء في العقل قد تعطلت فجاء حديثه في معظم الحالات خليطا بين ما ينبغي حبسه في عقل الباطن وما يجوز الاسترسال فيه دفاعا عن النفس، او تحسينا وتزيينا للمواقف.. ومن ذلك حديثه عن لب الصراع بينه وبين الفريق البشير حول رئاسة الجمهورية. وكيف ان الرئاسة عرضت عليه في وقت مبكر لكنه عزف عنها لانها تشغله بالبروتوكولات والشكليات بينما هو يريد ان يفكر ويبدع وينجز ويقرر ويدخل التاريخ، بمعنى انه يريد الرئاسة الفعلية ويترك للبشير الرئاسة الشكلية، وهذا ما لم يستطع البشير عليه صبرا اكثر من عشر سنوات فانقلب عليه، وقال: ان السلطة برأسين مستحيلة! ماذا قال الترابي لـ «الشرق الأوسط»؟

قال: «كان الناس يتحدثون لي قديما لا بد ان نزيح هذا النظام منذ الايام الاولى لثورة الانقاذ الوطني وتأتي الحركة الاسلامية وتأتي انت الى رئاسة الجمهورية، فكنت اقول لهم: انني لا استطيع ان اقضي معظم وقتي في البروتوكولات، معنى هذا ان معظم وقتي ضاع هباء، وسأذهب نسيا منسيا في التاريخ. ان كنت اريد ان احرص على اسمي في التاريخ او اجد اجرا عند الله سبحانه وتعالى اريد ان اغرق في ان اعمل مع الناس ومع الفكر ومع المجتمع واتركوا هذا لاحد يتولى البروتوكولات، والوزارات كذلك غالبها هكذا. فالحضارة لا يصنعها الوزراء واخلاق الشعب لا يصنعها الوزراء».

ان كل من يتمعن في هذه الفقرة من حديث الدكتور الترابي يجد هذه الخلطة بين الظاهر والباطن. فهو لا يمانع من ترك الرئاسة الشكلية البروتوكولية للبشير على ان يمارس هو كل السلطات بصرف النظر عن المسميات، بل انه يبحر في تضخيم الذات بعيدا عن مقتضيات التواضع ولو في الظاهر حين يتحدث عن حرصه على ادراج اسمه في التاريخ وفي صنع الحضارة وصياغة اخلاق الشعب. اي انه لا يكتفي بما هو متعارف عليه من دور ومسؤوليات رؤساء الجمهوريات، انه يتطلع الى ولاية الفقيه كما في ايران، والى ما هو اكثر منها. فالمراوغة بدأت بالحديث عن زهده في الرئاسة لكنه ما لبث بضع ثوان حتى غلب عليه عقل الباطن، ثم تفجرت المشاعر التضخمية فاختلطت الامور كلها في هذه الفقرة التي تكشف حقيقة الرجل والطبع الذي يغلب عليه والوضعية التي يريد ان يفرضها ليس على البشير فحسب وانما على السودان كله من حضارة وصياغة انسان، وسلطة تتجاوز رئاسة الجمهورية وكل السلطة التنفيذية، ثم بعد كل هذا لا يتورع من ان يتباكى على الديمقراطية ويستدل بالقرآن الكريم على جزاء من يخونون المواثيق! لقد شن الترابي هجوما عنيفا على الحكومة لما وصفه بتنكرها لاتفاقية الجنوب التي عقدت مع الدكتور مشار الى ان يقول «ولكنهم صبروا وصبروا والحكومة قصدا وعمدا اهملت كل التزاماتها معهم والقرآن يحدثنا قائلا: «واما تخافن من قوم خيانة فانبذ اليهم على سواء ان الله لا يحب الخائنين». فالنكوث عن العهد خيانة والآن بدأت روح الجبر والجبروت في هذه الحكومة». لكن الترابي وهو يتحدث عن نكث العهود ومجافاة التعاليم الاسلامية ينسى او يتناسى انه عندما خطط ودبر ونفذ هذا الانقلاب على الديمقراطية كان ينكث عهدا وقسما! ام ان لكل حالة لبوسها؟ وفي فقه التقية الذي برع فيه ما يبرر له ذلك النكوث ويحرم على هؤلاء ما فعل هو افدح منه! هذه مسألة بسيطة مقارنة بما قاله في هذا الصدد وفي معرض الحديث مع «الشرق الأوسط» عن اتفاق الجنوب، قال عن جناحه الذي انشق عن الحكومة «اننا اصدق اذا عاهدنا عهدا او ابرمنا اتفاقا في الايفاء به، ولا ننكث فيه، مهما كانت الاتفاقية بيننا وبينهم حتى لو اكتشفنا في ما بعد انها لم تكن خيرا. والامر الآخر هو ان الناس في السودان ابتلوا كثيرا بالحكم العسكري الذي تسلط عليهم، وان القضايا الدفاعية لا يجوز لصحيفة ولا لرأي عام ان يقول فيها شيئا، كلها محجوبة عن النقد».

لقد ظننا في بادئ الامر ان الترابي يدخر شيئا من فقه التقية لتبرير انقلابه العسكري لكنه فاجأنا بجرأته عندما قال بصريح العبارة ان السودانيين ابتلوا كثيرا بالحكم العسكري الذي تسلط عليهم. ومن حقنا ان نسأله طالما هذا هو رأيك يا فضيلة الشيخ في ابتلاءات السودانيين بالانقلابات، لماذا دبرت انت شخصيا هذا الانقلاب الجاثم عليهم والذي صرت تطلق عليه اوصاف الطاغوت والجبروت وما اليها؟ لا بد انك تجاوزت بالفعل مراحل تبريره والدفاع عن مسبباته، وفي هذه الحالة نتوقع ان نسمع منك ما سمعناه أخيراً عن استغفارك وتوبتك امام الحشود عن الخطايا التي ارتكبتها انت ورهطك بما في ذلك من خداع وغش واكاذيب على حد قولك... ومعلوم انك في آخر مرة استغفرت اربع مرات، وقطعا ان خطيئة الانقلاب تستحق الاستغفار مئات المرات، حتى ولو كان من باب استدرار العطف او انعدام الحيل من كثرة ما افتيت بالباطل يا فضيلة الشيخ.

ومع ذلك فان الناس لم ينسوا بعد كيف كنت تخطب في الحشود مزهوا بقدراتك الخارقة التي اخترقت بها القوات المسلحة المصممة اصلا ضد الاسلاميين على حد قولك وفاجأت العالم بانقلابك، لانه ما من سبيل لاعتلاء السلطة للاسلاميين الا على ظهر دبابة واستخدمت عبارات كثيرة تحصن الحكم بفرمانات السلطان وتدعو الى توحيد الامة بالقوة، وكذلك اسلمتها، وحولت حرب الجنوب الى حرب دينية.

والغريب يا فضيلة الشيخ انك تقول في سياق حديثك لـ«الشرق الأوسط».. حول الوحدة «ان قضايا الوحدة الوطنية لا يجب ان تحجبها الحكومة عن النقد، فقد جربتها دول كبرى ضربت، ولكنها لم تحجب الحقائق عن الناس، فالله سبحانه وتعالى يخبرنا انه لا يمكن توحيد الناس بالجبر او الاكراه، ولكن يمكن ان توحد الناس بالدعوة والقناعة». وطالما هذه هي قناعاتك فلماذا ابتدعت فكرة تجييش كل الشعب؟ وافرغت الجامعات والمدارس من طلابها للانخراط في الدفاع الشعبي والجهاد الديني لمقاتلة الكفار من ابناء الجنوب؟ ومن ثم عقدت الزيجات على بنات الحور لمن وصفتهم بالشهداء! ثم انكرت الجهاد نفسه في جزئية من حديثك لـ «الشرق الأوسط» حين قلت في معرض هجومك على القوات المسلحة: انها مثل غيرها من المؤسسات تخطئ وتصيب، فأحيانا الأخطاء ليست منهم كقوات مسلحة بل من القرارات والتوجيهات التي تتنزل عليهم وتسخرهم اسوأ تسخير. وتدفع كذلك بالمجاهدين وتنتهي بنا الى تضحيات وشهادات الله يقبلها لانها بالنيات ولكنها لا تقدم لنا في القضية شيئا فالجهاد لم يجعله الله هكذا، بل الجهاد من اجل الحريات فالحرية لله والحرية للناس. فنحن بدأنا بهذا النقد ونعلم انه نقد جديد، ولذلك الحكومة لا تحتمل مثل هذا النقد. اوليس من حق الناس ان يتساءلوا يا فضيلة الشيخ عن مغزى ومعنى: انه نقد جديد، قبل ان يتساءلوا عن عدم تحمل الحكومة له؟ ولماذا تأخر عشر سنوات؟ هنا يسكت الترابي لانه خلال عقد من الزمان كان هو مبدع فكرة الجهاد والمورط الاول للسودان فيها، الآن يريد ان يتخفف من عبء المسؤولية فيصف التملص بالنقد الجديد وينصرف مباشرة الى الحكومة ليحملها مسؤولية عدم القبول به او تحمل تبعاته! والامر لا يقف في اطار تحميل الحكومة تملص الترابي من كارثة الجهاد وكل ما ترتب عليه من قتل ودمار وتهديد لوحدة السودان، انما يخطط الترابي على المكشوف لتعليق كل الخطايا والاخطاء التي ارتكبها النظام على ظهر الفريق البشير ومن معه من اركان الحكم. ويستعيد الترابي ما حدث لهم في آخر عهد نميري عندما زج بهم في السجن بعد ان كانوا حلفاء له فصاروا ابطالا لما سقط بالرغم من ان البعض كان يراهم مخطئين في خلافهم معه ويقول: تبين مع مرور الايام أن قدر الله اراد ان يزيحنا من ضراء فخرجنا ابطالا. فعليه عسير على المرء ان يقرأ التاريخ هكذا في اللحظة التي هو فيها مكب على وجهه لن يكون مهتديا كالذي يمشي على الصراط المستقيم. كنا نريد ان نثبت مبادئ الشورى ومبادئ الحرية والديمقراطية فأصلنا كل ذلك في الدستور ولكن طرفا منا خان العهود والمواثيق التي تعاهدنا عليها وبدأ بقانون الطوارئ وخان مبادئ الشورى بحل المجلس الوطني والدستوري واتفاقية الجنوب والنظام الاساسي للحزب. نحن الآن ادركنا انه لا بد من ان نمكن لهذه القيم. فهذه القيم في اوروبا الغربية لم تأت هكذا من ورق ولكنها اتت بعد ثورات وتوترات وأزمات يعرفها التاريخ الدستوري والتاريخ السياسي الغربي. الديمقراطية هذه كسبوها كسبا وشوطا شوطا حتى استكملوها، وانه من العسير علينا ان ننزلها هكذا على الناس حتى ولو كانت هي من الدين لكن الدين غاب عنا اكثر من الف سنة، اقصد الدين السياسي.

هكذا بين لحظة واخرى تحول الترابي الى مبشر بالديمقراطية بعد ان كان ينكرها وكال لها ما شاء من الشتم والسخرية من الغرب، وهو يريد ان يلحق بركب الابطال الساعين والداعين لها معتمدا على ان ذاكرة الشعب ستنسى وتغفر له كل ما صنع بالسودان واهله وسيمشي وراءه الشعب لإحداث ثورة او انتفاضة تعيد الديمقراطية. وفي هذا الصدد يتحدث عن تحالفات محتملة مع حزب الامة فيقول «تحاورنا مع مبارك الفاضل المهدي، احيانا ينتظرون ان نمضي في حملتنا ضد النظام حتى النهاية لانهم يقدرون ان هذا النظام نحن الذين بنيناه ويريدون ان يشاركوا في تحريك النظام الى اتجاه آخر». وهو يصف تردد حزب الامة بين التحالف معه او مع الجناح الآخر بان الصادق المهدي يحاذر من ان يحدث لأيما وفاق بينه وبين الحكومة كما حدث بين الحكومة واهلها ونقضها للعهود، كذلك فهو يريد ان ان يتحرى تماما ما هي حركتنا وما هو مستقبلها. ويضيف: ربما القاه في مكان ما قريبا. باستثناء هذا التطلع الواهن لتحالفات فان الترابي لم يكسب الى صفه من الشارع السياسي السوداني اية شرائح الا في اطار الاسلاميين المسيسين فله الاغلبية حتما، بينما ترك النظام يراوح مكانه سجينا لشعارات التوجه الحضاري التي يزايد عليها معهم حينا، ويتبرأ ويستغفر منها حينا آخر، بينما البشير وصحبه هم الاولى بالمبادرة بدفن المشروع الحضاري والانفتاح على كل القوى السياسية، وما لم يفعلوا ذلك فانهم سيخسرون الكسب العالمي الذي رافق اقصاء الترابي ولن يكسبوا ثقة الشعب لانهم لم يغيروا النهج الذي كان سائدا، لان العبرة ليست بازاحة الاشخاص وانما بازاحة السياسات التي كانت سائدة، ثم ان الزمن ليس في صالحهم ايضا.