بالروح لا بالدم

TT

من الفصول الرائعة في تاريخ الجهاد المدني (اللاعنف) الحملة التي نظمها عبد الغفار خان في منطقة الحدود الشمالية من الهند بين الحربين العالميتين من اجل استقلال الهند والنهوض بالسكان المسلمين واقناعهم بنبذ العنف واعتماد النضال اللامسلح من اجل حقوقهم وتحرير بلادهم. كانت مهمة شاقة لان سكان المنطقة من قبائل الباثان كانوا من اعنف المواطنين واشدهم بأسا في القتال. ومن الشائع بين الناس وبيننا في بلادنا العربية ان اللاعنف لا يصلح لمن جبلوا على روح القتال والقوة والعنف. وكانت هذه اعجوبة عبد الغفار خان في ان استطاع ان يقنع الباثانيين بنبذ تلك الروح والتأكيد على الجانب السلمي واللاعنفي من الاسلام.

بادر الى تأسيس منظمة «خداي خدمة كار»، اي «خدم الله» وصاغ لها قسما يقوم على تسعة مبادئ تشمل خدمة كل مخلوقات الله من انسان وحيوان بغض النظر عن اي اعتبارات عرقية او طائفية، والتضحية بكل شيء من اجل الوطن والدين ورفض اي مكافأة على التضحية والخدمة وعدم الدخول في اي شقاق مع الآخرين ورفض استعمال السلاح. الشعار: «جميع اعمالي لمرضاة الله وليس لأي رياء او كسب».

جرى تدريب خدم الله وفق ما يشبه التنظيم العسكري، قمصان حمراء واعلام خاصة ومسيرات طويلة وتمارين رياضية مرهقة. ولكن بدلا من التدرب على السلاح كانوا يجاهدون في خدمة القرى بتنظيفها واصلاحها ومدها بالخدمات والعناية بسكانها وتعليمهم بعض الحرف الاساسية. وكانوا يتلقون دروسا يومية عن الدين والوطن والوحدة الوطنية والاخوة البشرية وتجنب العنف. نظر الباحثون الى منظمة «خدم الله» كأول تجربة في تشكيل جيش يقوم اساسا على مبادئ اللاعنف وتجنب استعمال السلاح.

في 1930، اعلن عبد الغفار خان العصيان المدني ضد الحكم البريطاني فاعتقلوه واصبح ذاك اشارة لخدم الله بشن المظاهرات الاحتجاجية في سائر المدن. بادرت السلطات الى قمعها باعتقال كل من لبس ثوبا احمر. رد الجمهور على ذلك باعلان الاضراب العام فورا. تلى ذلك اجتماع شعبي في بزار مدينة بشاور، فهاجمته القوات البريطانية وظلت لست ساعات تطلق النار على الجمهور بما اسفر عن مقتل اكثر من 300 مواطن. وفي هذه المجزرة رفض فوج الغروال من الهنود فتح النار على اخوانهم المسلمين فاعتقلوا جميعا واحيلوا الى المحاكم العرفية. وقد اهتز الرأي العام العالمي في داخل بريطانيا وخارجها لدى سماع الصمود اللاعنفي الذي اظهره الجمهور امام النار. امرت الحكومة بمنع «خدم الله» والسيطرة على مقراتهم واموالهم ووثائقهم. احرقوا مكاتبهم وطاردوا اعضاءهم وراح الجنود الانجليز يتندرون بما سموه «قتل القمصان الحمراء» الذي زاولوه كما لو كان نوعا من النزهة الرياضية. ولكن بدلا من تصفية المنظمة ادى ذلك الى انتشارها وتعاظمها، فبعد ان كان عدد «خدم الله» في حدود الالف عضو فقط قبل عملية العصيان المدني، ارتفع الى ما يزيد على 80000 عضو من ابناء الباثان عند نهاية العام. واضطر نائب الملك في الاخير الى منح منطقة «الحدود» كيانها الخاص كولاية، وهو ما كانت تسعى اليه الباثان.

بيد ان ابناء الباثان استمروا بقيادة خدم الله وعبد الغفار خان في جهادهم المدني سوية مع بقية سكان الهند حتى حصلت الهند وباكستان على استقلالهما، عبر مسيرة طويلة من العمليات الجهادية السلمية.