استحقاقات مرتقَبة لكشف حساب العولمة

TT

إذا كان التنظير لإقامة نظام العولمة واكب التنظيرَ لإقامة نظام عالمي جديد بعد حرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء) فإن العولمة لم تتبلور كأداة لعمل هذا النظام إلا في قيام منظمة التجارة العالمية سنة 1994 بمدينة مراكش المغربية.

وقد عززت إقامة منظمة التجارة العالمية أداء عمل مؤسسات نظام «بروطن وودس» العالمية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، ومن بينها مؤسسة النقد الدولي والبنك العالمي. لكن منظمة التجارة العالمية ـ وإن تأخر ميلادها عن ميلاد هاتين المنظمتين العملاقتين ـ أصبحت بحكم الاختصاص الأداة الأساسية للتحكم في التجارة العالمية التي تعني الاقتصاد العالمي.

وقد مر ميلاد منظمة التجارة العالمية بمخاض عسير قبل أن يتم وضعها رسمياً في مرحلة مراكش التي كانت نقطة تحول في مسيرة الاقتصاد العالمي. ولئن توفر لميلادها أزيد من النصاب القانوني فإنها نشأت مع ذلك في جو جدال صاخب حول أن تكون أو لا تكون، وأصبح لها بالتالي مؤيدون ومعارضون في عالم الجنوب وحتى في عالم الشمال.

إن عالم الشمال ليس منحصراً في الحقيقة في عالم الغنى ووفرة رأس المال وتكالب ذوي الثروات الخيالية على المزيد من الكسب والفائدة، بل هو أيضاً عالم الفقراء. وكما قيل، فالعالم الثالث يبتدئ في شمال الكرة الأرضية من ضواحي عواصمها، حيث ينعزل الأغنياء في جزر الغنى والعيش الرغيد، وتطوقهم خارجاً منها وقريباً منها أمواج الفقر والبؤس. العالم الثالث يبتدئ في باريس من «باريس»، وفي لندن من «الهايد بارك»، وفي نيويورك من حي «هَارلم».

وإذا كانت العولمة خُلِقت نظرية بالمعنى العلمي لهذه الكلمة وأطَّرتها المؤسسات الاقتصادية سالفة الذكر فإن نزعة مناهضتها انطلقت من أدبيات عميقة الدلالة قائمة على نقد علمي دقيق لمضامين العولمة وكاشفة عن حقيقتها التي يختصرها الشعار الذي رفعه مناهضوها في مظاهرة «سياتيل» التاريخية التي مرت عليها سنة وجاء فيه «العالم ليس بضاعة للتسويق. والعولمة استعمار جديد».

وقد بدأت حركة مناهضة العولمة حركة جماهيرية لكنها لم تلبث أن أطرتها منظمات المجتمع المدني ومواكب المثقفين الذين أعطوها تنظيرها الفكري الذي التفت حوله أطياف المجتمع المدني، كما عززتها سلطة المواطنة التي أصبحت سلطة حاكمة بين سُلَط الحكم. وقد أخذ ميزان القُوَى يرجح لفائدة هذه السلطة الجديدة التي استطاعت أن ترفع صوتها صارخا في وجه صناع العولمة سواء في مظاهرة سياتيل أو ما تلاها من مظاهرات في جنيف وغيرها.

واليوم تلوح في أفق المدى المنظور استحقاقات سيهتبلها الطرفان المتشاكسان: صناع العولمة من جهة، ومناهضوها من جهة أخرى. الأولون لإظهار نجاحات العولمة وتسليط الأضواء على حصيلة منجزاتها، والآخِرون لكشف سوءاتها والعمل على وضع حد لعواقبها وآثارها، وحتى حمل العالم على أن يفكر في خلق نظام اقتصادي بديل عن العولمة ينظّر له من الآن ويرسُمَ معالمَه مثقفو حركة مناوءة العولمة.

أمام مؤيدي العولمة استحقاق الفترة المتراوحة ما بين 18 و28 شتنبر (أيلول) الجاري (2000) التي سينعقد خلالها بعاصمة براغ (التشيك) اجتماع المجالس العليا لمؤسسات «بروطن وودس» (صندوق النقد الدولي، والبنك العالمي) للنظر في «ملامح الاقتصاد العالمي» (World Economic Outlooc). وقد مهد لهذا الاجتماع الكبير اجتماع لمجلس إدارة صندوق النقد الدولي انعقد يوم الاربعاء 30 أغسطس (آب) المنصرم بواشنطن ووُضعت فيه اللمسات الأخيرة على التقرير المخصص لدراسة وتقييم ملامح الاقتصاد العالمي لرفعه إلى اجتماع براغ المذكور أعلاه.

وقد تسربت عن هذا الاجتماع التمهيدي معلومات عن بعض ما جاء في هذا التقرير تفيد أن العولمة ستحقق للنمو الاقتصادي العالمي في غضون سنة 2000 زيادة ملحوظة نسبتها %4.7. ويضيف الخبراء أن هذا الارتفاع هو أقوى نسبة عرفها العالم في السنوات العشر الأخيرة. وجاء في التقرير أيضا أن الولايات المتحدة الأمريكية تشكل في هذه الحصيلة المحرك الأساسي الدافع لعجلة الاقتصاد العالمي، وأن دول الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة ساهمت في رفع هذا النمو وبلوغه هذه النسبة، وذلك بالرغم من التخوفات التي سايرت العالم من جراء ارتفاع سعر البترول إلى 30 دولارا للبرميل أو يزيد، مما كان يُظَنّ أنه سيعود بالعالم إلى عهد التضخم، الشيء الذي يعني أن العولمة تغلبت على تحديات السلبيات بنجاح.

ويتوقف تقرير المجلس الإداري لصندوق النقد الدولي عند إفريقيا لينظر إلى اقتصادها بنظرة يطبعها التفاؤل بالرغم مما يهدد هذه القارة من فقر وأمراض فتاكة، ولا سيما مرض السيدا (الإيدز) فالقارةُ ستعرف هذه السنة ـ حسب هذا التقرير ـ تزايدا في نموها الاقتصادي.

وليبرهن خبراء صندوق النقد الدولي على نزاهتهم الفكرية، وحتى لا يُوسَموا بالتحيز إلى العولمة فإنهم ختموا تقريرهم بتوقع تراجع نسبة النمو الاقتصادي العالمي في السنة المقبلة (2001) إلى 4.2 بدلاً من 4.7 هذه السنة (2000) ولكنها مرحلة موقتة.

لم يُنشَر إلى اليوم النص الكامل لهذا التقرير، ولكن ما تَسَّرب عنه من المعلومات التي أشرنا إلى بعضها يؤشر إلى أنه جاء لإقامة الحجة على نجاح العولمة والرد على مناوئيها الذين يترصدون سيئاتها للحكم عليها بنظرة تشاؤمية لا يشاطرهم التقرير اياها.

أما مناوئو العولمة فهم يعملون لتأطير حركتهم وإقامة مؤسسات فاعلة لمناوأة العولمة بأسلوب جديد. وابتدأوا بخلق «المنتدى الدولي لمتابعة العولمة». وهو تجمع يضم أزيد من خمسين منظمة غير حكومية عبر العالم، لها مجلس تلتقي فيه خمسون شخصية من عالم الفكر والثقافة. وهدفها حسبما جاء في ميثاقها مناهضة العولمة التي تطبقها منظمة التجارة العالمية. ومقرها الأساسي يوجد بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية. ولها مجلس إداري يضم اثني عشر عضوا ومقره بفرنسا. وقد اجتمع في دورته السنوية يومي 26 و27 أغسطس (آب) المنصرم.

وقد لاحظ مجلس الإدارة بارتياح في التقرير الذي نشره في أعقاب اجتماعه أن حركة مناوأة العولمة حققت تقدما محسوسا منذ مظاهرة «سياتيل» التي جرت في نونبر (تشرين الثاني) سنة 1999. وعلق أحد أعضاء المجلس مركزا على هذا التقدم بقوله: «لقد كنا من قبل نستعطف الحكومات لتقوم بتغيير الأوضاع أما الآن فحركتنا أصبحت تشكل قوة تُخَلْخِل توازن منظمة التجارة العالمية». وقال عضو آخر: «إننا نجحنا في تحسيس عالم الجنوب بأنه ليس هو المستفيد من نظام العولمة».

وجاء في تقرير مجلس الإدارة أيضا أن «المنتدى الدولي لمتابعة العولمة» تجاوز مرحلة انتقاد العولمة ومناهضتها إلى مرحلة تخطيط مبادئ النظام البديل عن العولمة الذي يتلافى سيئاتها ويتدارك ما أصاب العالم من عواقبها». والحجر الأساس في هذا البديل هو وضع حد لهيمنة مؤسسات العولمة الاقتصادية (النقد الدولي، والبنك العالمي، ومنظمة التجارة العالمية) على منظمة الأمم المتحدة، وتغيير هذه المعادلة بما يجعل هذه المؤسسات تابعة للأمم المتحدة لا العكس. وذلك بإعادة سلطة القرار إلى المنظمة الأممية التي أنشئت في الأساس لتكون أم المنظمات وأسماها وأقواها قوة قانونية.

وأضاف التقرير أن «المنتدى الدولي لمتابعة العولمة» دعا إلى عقد اجتماع مؤتمر عالمي بنيويورك مقرر في تاريخ خامس شتنبر (أيلول) الجاري. وسيكون شعاره هو: «إصلاح منظمة التجارة العالمية ووضعها في مكانها المحدود أو الإلقاء بها إلى البحر». ومن المقرر أن تجري ببراغ مظاهرة عالمية أخرى يوم اجتماع مجلس إدارة صندوق النقد الدولي لممارسة الضغوط على صناع العولمة على غرار ما وقع في «سياتيل».

هكذا سيكون شهر شتنبر (أيلول) الجاري شهر اختبار للعولمة التي يظهر أن الصراع بينها وبين مناوئيها يدخر مفاجآت لا يمكن التنبؤ الآن بما سيكون لها من عواقب على مصير العولمة ومنظمة التجارة التي وُلدت في ظل حركة إنكار لها واستنكار لأهدافها وما تزال حركة مناوأتها تنمو وتزيد.