بيني ليفي: من «الكراس الأحمر» إلى «التّلمود»

TT

الفتيان الغاضبون بشعر طويل وبسراويل «الشارلستون» الذين نزلوا قبل ازيد من ثلاثين عاماً إلى شوارع باريس ولندن وبرلين وروما وامستردام ليشعلوا تلك الثورة التي اجتاحت كامل انحاء اوروبا وامتدت حتى إلى البعض من بلدان العالم الثالث والتي اصبحت تسمى بـ «ثورة 68» الطلابية، رافعين شعارات راديكالية تندد بـ «الرأسمالية المتوحشة» وبـ «الامبريالية المتعجرفة» وبـ «لاانسانية المجتمعات الاستهلاكية» و«قبح السلطة مهما كان نوعها أو شكلها»، تغيروا كثيراً، بل ان جميعهم تقريباً دخلوا الى بيت الطاعة و«قلبوا القميص» كما يقول التونسيون. كوهين بانديت «الفتى الأحمر» أشهر زعماء ثورة 68 الطلابية في باريس والذي اثار اعجاب سارتر العجوز وهانا آراندت تلميذة هايدجر وعشيقته في السر قبل ان يطردها النازيون من المانيا، «تكيّف» مع الوضع العالمي الجديد، واصبح نائباً في البرلمان الاوروبي يدافع عن جوسبان وعن بلير وعن شرودر. وحين يحن إلى ماضيه الثوري، يرفع صوته عالياً للدفاع عن «حقوق الانسان» في هذا البلد أو ذاك، أو يطير إلى الجزائر مع مجموعة من نواب البرلمان الاوروبي ليطلع على حقيقة ما يجري هناك، أو يتوجه إلى البلقان للتعبير عن تضامنه مع ضحايا نظام بلغراد العرقي. اوسكار فيشر الذي تعاطف مع مجموعة «بادر ماينهوف» اليسارية المتطرفة ووزع المناشير الثورية في احياء العمال في فرانكفورت وبرلين اصبح وزيرا لخارجية المانيا، وقبل ان يشارك جيش بلاده لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية في الغارات التي شنتها قوات الحلف الاطلسي العام الماضي على جيش بلغراد. ريجيس دوبريه، الذي ساند الثورة الكوبية والتحق بتشي جيفارا في بوليفيا، اصبح مستشاراً لميتران مطلع الثمانينات. وقبل عام وقف مدافعاً عن نظام بلغراد، اما انقلاب بيار فيكتور على ماضيه فقد كان الاكثر راديكالية اذ انه تخلى نهائياً عن «الكتاب الاحمر»، كتابه المفضل ايام كان زعيماً لليسار البروليتاري الفرنسي نهاية الستينات ليصبح من اشد الناس تقيداً بتعاليم «التلمود» وشرائعه. كما انه اعتمر «الطاقية» اليهودية، واطال شعر رأسه ولحيته على طريقة المتدينين اليهود المتطرفين. ولكي يزداد انسجاما مع وضعه الجديد تخلى عن اسمه الثوري «بيار فيكتور» الذي اشتهر به ايام «ثورة 68» الطلابية ليختار اسما توراتيا هو بيني ليفي.

وينتسب بيني ليفي الى عائلة من اليهود الشرقيين كانت تسكن يافا. وكان جده زعيما للطائفة اليهودية التي كانت تعيش في هذه المدينة خلال منتصف القرن التاسع عشر. وكان مولده في القاهرة عام 1945. وعقب حرب قناة السويس، انطلق الى فرنسا بصحبة عائلته. كان لامعا في الدراسة. وبعد حصوله على شهادة البكالوريا بدرجة مشرف جدا، التحق بالجامعة حيث درس الفلسفة تحت اشراف اساتذة مرموقين، بينهم لوي التوسير الذي كان احد المؤثرين الكبار في تفكير جيل 68، وايضا جاك دريدا، اليهودي القادم من الجزائر الذي ابتكر منهجا فلسفيا ونقديا جديداً سماه «التفكيكية».

وعند اندلاع «ثورة 68» الطلابية، برز بيني ليفي الذي كان يدعى آنذاك بيار فيكتور، كزعيم ماوي (نسبة الى الزعيم الصيني ماوتس تونج) متطرف وقاد المظاهرات الطلابية في شوارع باريس واشرف على كتابة المناشير واللافتات، وكان احد الذين قادوا المفاوضات التي جرت بين الحكومة الفرنسية والطلبة.

بعد انطفاء «ثورة 68» الطلابية، اصبح بيار فيكتور الذي سوف يصبح في ما بعد بيني ليفي صحافيا. وبسبب المقالات الحادة اللهجة التي كان ينشرها في الصحف اليسارية المتطرفة، اوقف اكثر من مرة واودع السجن. وعندما اشتد عليه الخناق الامني، استنجد بالمفكر الاكثر شهرة في ذلك الحين، اعني بذلك جان بول سارتر الذي رفض الجنرال شارل ديجول اعتقاله «لان فولتير لا يمكن ان يودع السجن». وفي الحين نشأت صداقة قوية بين المفكر العجوز الذي اشاد بجذوره اليهودية في سيرته التي اختار لها عنوان «الكلمات» والشاب الثوري الملتهب حماسا. وللتخفيف من حدة المضايقات الامنية المسلطة على بيار فيكتور، قرر سارتر ترشيحه سكرتيرا خاصا له. وعلى مدى عشر سنوات ظلا متلازمين. وكانا يلتقيان يوميا في مقاهي الحي اللاتيني، لاعداد مواد اربعة كتب كانت ثمرة العلاقة بينهما. متحدثا عن سارتر، يقول بيار فيكتور: «لقد كان دائما قريبا من عالم الحقيقة، بعيدا عن تفاهات الحياة ومظاهر الغرور التي تتخللها». ولأن سارتر كان قد شرع مطلع السبعينات في كتابة اثره الهام عن فلوبير فإنه طلب من صديقه الشاب ان يقرأ له «مدام بوفاري» وذلك لضعف بصره، غير ان هذا الاخير اعتذر عن ذلك قائلا: «ماهي اهمية مشاكل تتعلق بالشؤون العاطفية للبورجوازية بالنسبة لثوري أحمر مثلي؟!». وقد قبل سارتر الاعتذار مقترحا على صديقه الشاب اعداد مشروع آخر: افلاطون والثورة. وفي الحين تحمس بيار فيكتور للمشروع المذكور. والآن هو يقول عن ذلك: «لقد قرأت مع سارتر حوالي مائة كتاب عن الثورة. انها مرحلة من تاريخ فرنسا نحبها معا. بعد الثورة، اهتممنا بنابليون وامضيت قرابة ستة اشهر في قراءة كتابه: «ذكريات جزيرة سانت هيلانة». فجأة بدأت افهم ما كان يختلج في داخلي. لقد فهمت انه لكي يصبح الانسان زعيما في فرنسا، لا بد ان يكون معارضا عنيفا لها. وهذا ما فعله نابليون. ومن هناك عدنا الى الثورة الانجليزية لاكتشف انطلاقا منها كيف كان الثوريون البريطانيون يتعلمون اللغة التوراتية. ثم في الثورة الانجليزية، غصنا اكثر في الماضي لنصل الى الغنوصيين ثم الى المانويين ثم الى العلل التي اعتبرتها المسيحية مللا هرطوقية. وفي هذه المرحلة بدأنا نقترب حقا من التوراة. وانا الذي كنت حتى ذلك الحين، متشبثا بكل قواي بالغرب وبالمسيحية، اصبحت يهوديا قسرا، وبسبب حاجة ثقافية. لقد كنت يهوديا يمتلك رغبة قوية في أن اكون داخل نسيج ثقافة غير ثقافتي الاصلية. ولأنني كنت مثقفا، فإن مهمتي في الحياة هي ان اكون اكبر مثقف يهودي في فرنسا. هدأني سارتر. وفي هذه المرحلة من حياتي رأيت عالم المثقفين بجميع بشاعته. ليس سارتر الذي كان لي الحظ ان ارى جماله، وانما المستنقع الثقافي الذي كان يحيط به».

في عام 1980، توفي جان بول سارتر، ومعه افلت حقبة كانت من اشد الحقب التهابا على المستوى الفكري والفلسفي والأدبي والفني. وقبل وفاته بقليل اصدر بيار فيكتور مجلدا احتوى على سجالاته الاخيرة معه. ومن خلال هذه السجالات، بدأ سارتر وكأنه يتكلم لغة توراتية شبيهة بتلك التي يتكلمها الرهبان اليهود، مستعملا مفاهيم وافكارا مستوحاة من الديانة اليهودية، مشككا في مقولاته الفلسفية القديمة بشأن الانسان والدين والوجود.

عند صدور السجالات، ثارت ثائرة الانتلجنسيا الفرنسية، خصوصا منها المقربة من صاحب «الوجود والعدم» وكانت سيمون دي بوفوار، رفيقة حياة سارتر الاشد غضبا من الجميع. وفي كتابه الجديد الصادر حديثا تحت عنوان «قرن سارتر» يروي برنار هنري ليفي ان بوفوار صرخت عاليا ناعتة بيار فيكتور بـ «الدجال والمحتال». ومن جانبه يروي بيني ليفي الذي كان يدعى بيار فيكتور الواقعة قائلا: «شتمتني سيمون دي بوفوار شتما مقذعا صارخة بصوت عال. لقد كانت لحظة عاصفة. هي واصدقاؤها كانوا يريدون مسكي من شعري والقائي في النار لاني اخذت منهم «معبودهم» والواقع ان سارتر لم يكن يهتم الا بالحقيقة، وهو الذي اجبرني على ان امضي سجالاتي معه تحت اسم: «بيني ليفي» وانا مدين له بانه اعادني الى ذاتي الحقيقية».

الآن اصبح اهتمام بيني ليفي منصبا على الديانة اليهودية، منصرفا انصرافا كليا عن السياسة وأهلها وشؤونها الصغيرة والكبيرة. وقد كتب عنه افي كاتزمان في صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية يقول: «ان بيني ليفي مقتنع اليوم اقتناعا كليا بأن جملة واحدة من التلمود يمكن ان تضيء المشاكل الفلسفية المستعصية عن الحل حتى هذه الساعة!».