مثال توني بلير.. لمن يهمه الأمر

TT

لم يهبط توني بلير، رئيس الحكومة البريطانية على ناخبيه بالمظلة، بل كان وصوله الى مقر الحكومة في «داوننج ستريت» عام 1997، نتيجة طبيعية لتفاعل وضعين متناقضين، على ما بينهما من اتصال.

اولهما، وضع الافلاس السياسي الذي وصلت اليه حكومة المحافظين السابقة، بزعامة جون ميجور، بعد ان استطال عهدها في السلطة الى ما فوق ما تحتمل ديمقراطية التداول البريطانية.

وثانيهما، الاستنهاض السياسي الذي نجح فيه حزب العمال (المعارض) بزعامة توني بلير، على مدى سنوات، مستفيداً بالدرجة الاولى من براعة لافتة في استخدام اسلوب الاغواء لاستمالة كتل واسعة وشرائح مؤثرة من الرأي العام.

وقبل ان يتحقق لحزب العمال الجديد، بزعامة بلير، الاكتساح الانتخابي الكبير في الانتخابات العامة عام 1997، استطاع ان يراكم مؤشرات تدل على انتصاره المقبل شبه الساحق: فقد جاءت نتائج اوثق استطلاعات الرأي الى جانبه بنسب عالية، واستدارت الى تأييده قلاع اعلامية حصينة ومرموقة، وأثمرت سياسة الاستقطاب التي مارسها عن انتقالات متوالية من صفوف المحافظين الى معسكر العمال اشتملت على قادة رأي وبرلمانيين.

بهذه الحصيلة الثرية وصل توني بلير وحزبه الى السلطة في نظام يؤمن أساساً بالتعددية والتداول.. لكن المزاج الشعبي الذي ارتكن اليه حزب العمال عندما كان في صفوف المعارضة، لم يعد هو هو حينما وصل الى مقاعد الحكومة. وهذا من طبيعة الأمور في الديمقراطيات العريقة والمستجدة، وهو ايضا من طبيعة العصر الذي لم يعد يحتمل نظام الحكم الواحد، والرأي الأوحد.

فسياسة الاغواء التي مارسها بنجاح حزب توني بلير المعارض ـ والتي من المقدر ان ينجح فيها اي حزب معارض ـ تتحول الى سياسة عقيمة عندما يصل اصحابها الى سدّة المسؤولية. هنا سياسة الاغواء لا بد لها ان تستقيل لتحتل مكانها سياسة الارواء.. وحينما تفشل هذه، يحدث للمزاج الشعبي العام ذلك التبدل. فبعد ان وقف خلف توني بلير دافعاً اياه الى السلطة، ها هو اليوم يقف في وجهه، وكأنه يقول له: حان الآن وقت مراجعة الحساب.

لقد خرجت كتل من الرأي العام البريطاني الى الشارع، لتعبّر بشكل صارخ عن احتجاجها واعتراضها على سياسات ضريبية حكومية بشأن أسعار المحروقات. وطوال ايام بلياليها احاطت بمصافي النفط، والطرق الموصلة اليها جموع من سائقي الشاحنات وسيارات الاجرة والمزارعين والعمال والحرفيين واصحاب المصانع الصغيرة. ولم يكن هؤلاء ينسخون تجربة سبقتهم بأيام عند جيرانهم الاوروبيين، بقدر ما كانوا يصيغون بأسلوب مختلف رسالة موجهة الى الحكومة التي انتخبوها، ومنحوها الأغلبية البرلمانية المقررة، ومحضوها التأييد العارم قبل ثلاث سنوات فقط.

كان فحوى الرسالة واضحاً ومقروءاً منذ الليلة الاولى «للانتفاضة»، ونقلها تلفزيون الـ«بي. بي. سي» (وهو بالمناسبة تلفزيون الدولة الرسمي لمن يحب المقارنات). ففي استطلاع سريع للرأي، أجرته المحطة، جاءت النتيجة ان 6 في المائة فقط من البريطانيين يعتقدون ان توني بلير يدير ازمة اسعار النفط بشكل جيد، وان 94 في المائة يعتبرون انه يديرها بشكل سيئ.

مصير توني بلير وحكومته، قد لا يهم كثيرا الرأي العام العربي، لكن سياق النهوض والارتكاس الذي مرت به ظاهرة توني بلير، هل يهم احداً؟

الاجابة الأسهل عن هذا السؤال، هي بالعودة الى موقف التبرؤ، في تراثنا السياسي، بالقول: ليس منا ابو موسى الأشعري!