سياسة أميركا تجاه السودان: عشرة أعوام من الأخطاء

TT

أصبح قصف طائرات الجيش السوداني للأهداف المدنية في جنوب البلاد روتيناً يومياً. غير أن هذا الأمر لم يعد «انباء» رغم ان عمليات القصف شملت أهدافا مدنية مثل المراكز العلاجية لمنظمات الإغاثة، والمدارس، وحتى العيادات البيطرية. وقد ازدادت الحرب في الجنوب حدة خلال الأشهر الأخيرة في ظل عدم وجود أدنى اهتمام من أجهزة الإعلام الغربية، وهي حرب وصفها أحد المراقبين بأنها «النزاع الأكثر تدميراً خلال نصف قرن».

ربما ينظر البعض إلى قصف الطائرات العسكرية للجيش السوداني للأهداف المدنية في الجنوب كنموذج آخر لاعتداءات الحكومة على المواطنين المسيحيين الأبرياء في الجنوب، غير ان القصة أكثر تعقيداً من ذلك. فهذا النزاع أودى بحياة ما يزيد على مليوني شخص منذ اندلاعه عام 1983 بالإضافة إلى تشريد ملايين أخرى، إذ يزداد هذا العدد يومياً مع كل غارة تشنها طائرات الجيش السوداني ومع كل قذيفة هاون يطلقها المتمردون.

يشكل الدين والنفط والسياسة مزيجاً «قابلاً للاحتراق». وإطلاق تسمية «الحرب الأهلية» على هذا النزاع أمر مضلل، إذ ان هذه التسمية هي مجرد عبارة ملائمة فقط لإبعاد مسؤولية المعاناة والبؤس في السودان عن الغرب. إذا تجاوزنا حدود السودان فان النزاع الحالي الدائر منذ 17 عاماً قد اصبح شأناً دولياً يضم العديد من الأطراف. فأولاً، هناك الحكومة السودانية وفصائل المتمردين المتعددة داخل السودان. ثانياً، هناك أطراف أخرى، مثل الشركات المتعددة الجنسية علاوة على الحكومات الأجنبية.. وعلى وجه الخصوص الصين وماليزيا، إذ أن هذه الأطراف ساهمت في تطوير حقول النفط واستخراجه وتشييد خط للأنابيب لنقله من جنوب البلاد عبر منطقة الوسط إلى موانئ التصدير للأسواق العالمية. هناك أيضاً الولايات المتحدة التي هي طرف في هذه القضية، إذ أن سياساتها المؤيدة للمتمردين أدت إلى إثارة العنف أكثر مما ادت الى دفع قضية السلام الى الامام.

لقد قاتلت مجموعات المتمردين الحكومات التي تعاقبت على الحكم منذ استقلال السودان عام 1956 من اجل مطالب وقضايا عادلة في غالب الأحيان. اما النزاع الأخير، فقد اندلع عام 1983 بسبب تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية، وبسبب الاختلاف حول اقتسام نفط الجنوب ـ الذي لم يكن قد استُخرج حتى ذلك الوقت ـ خلال حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري الموالي للولايات المتحدة.

ويجب ان نلاحظ هنا انه عندما كان السودان يتمتع بأهمية استراتيجية خلال حقبة الحرب الباردة، فان الولايات المتحدة تجاهلت تزايد صعود الأصولية وأدانت نشاط التمرد المناوئ للحكومة في الجنوب. كما ان كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية أرسلت إلى الشمال فيما تُرك الجنوب يواجه خطر الجوع لوحده. ففي عام 1988 حصد الجوع أرواح ما يزيد على ربع مليون شخص من قبيلة الدينكا بسبب بطء استجابة المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة، لخطر المجاعة في جنوب السودان. ولكن بنهاية الحرب الباردة، وظهور نظام اصولي متشدد بزعامة الجبهة القومية الإسلامية عام 1989، غيرت الولايات المتحدة خطها بصورة مفاجئة واصبحت مناوئة للشمال ومتعاطفة مع الجنوب، ومن ثم فقد اصبحت معاناة مسيحيي جنوب السودان فجأة قضية مهمة بالنسبة للسياسيين الأميركيين المحافظين ومنظمات الإغاثة. ومن جهتها، فان مجموعات التمرد الجنوبية المناوئة للحكم في الخرطوم برعت في استغلال النوايا الحسنة والموقف المتعاطف من جانب الكونجرس وإدارة الرئيس بيل كلينتون. فقد كثفت المجموعات المناوئة للحكومة خلال فصل الصيف الحالي هجماتها على المدن التي تسيطر عليها القوات الحكومية في الجنوب، فيما كثفت الطائرات العسكرية قصفها الجوي لعدد من المناطق مستفيدة من الاستغلال الناجح لموارد النفط والغاز الطبيعي.

لقد شرد النزاع آلاف المدنيين الذين فقدوا مساكنهم وتفرقوا في كل اتجاه، بل وفي بعض الأحيان اضطروا إلى عبور الحدود الدولية. ونسبة لتقلص مساحات الرعي فقد وقعت نزاعات قبلية بين مجموعات من الرعاة في بمنطقة بانتيو ومجموعات أخرى اضطرت بسبب الحرب إلى النزوح مع ماشيتها إلى هذه المنطقة. ويلاحظ بوضوح ازدياد هذا النوع من النزاعات إلى جانب انتشار الأمراض بسبب انعدام التحصين ضد بعض أمراض الماشية. ويمكن القول ان القتال الأخير في جنوب السودان دار في معظم الأحيان بسبب النفط. ولا شك ان النفط يمكن ان يصبح عاملاً مباشراً في خلق سودان اكثر انسجاماً وازدهاراً، إلا ان استغلاله كان في غير ذلك من جانب الحكومة السودانية وشركات النفط الأوروبية والأميركية والآسيوية. فالحكومة السودانية استغلت نصيبها في عائدات النفط في دعم تصعيد هجماتها العسكرية ضد المدنيين الذين يقطنون في مناطق حقول النفط، إذ وثقت المجموعات المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان انتهاج حكومة الخرطوم لسياسة الأرض المحروقة وحملات التهجير القسري لإخلاء مناطق حقول النفط في الجنوب من سكانها الأصليين.

الى ذلك، يمكن القول ايضا ان الدين يمثل جزءاً من أسباب القتال الدائر في جنوب السودان. غير ان سياسة إدارة كلينتون الرامية إلى عزل الحكومة التي يسيطر عليها الإسلاميون ودعم المتمردين المناوئين لها، أتت بنتائج عكسية. ان سياسات واشنطن هذه الغت وجود دافع السلام لدى المتمردين.

ومن المفيد ان نشير هنا الى ان جملة المساعدات الإنسانية التي قدمتها الولايات المتحدة للسودان خلال العقد الماضي بلغت ما يزيد على بليون دولار ذهب معظمها إلى تضميد جروح الجنوب، وهو ما يمكن اعتباره مؤشر نفاق في مواجهة مسؤولية الولايات المتحدة في إطالة أمد العنف في السودان. فإلى جانب هذه المساعدة المالية يجب ان تبدي الولايات المتحدة التزاماً سياسياً أكثر قوة لوقف هذا القتال. وبالاضافة الى الخطوات الإيجابية في مجال إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الخرطوم يجب على الإدارة الأميركية ان تتخذ المزيد من الخطوات.

والملاحظ ان الدول الحليفة للولايات المتحدة ما تزال حتى الآن متحفظة تجاه ضرب مصنع الشفاء للأدوية بالعاصمة السودانية عام 1998 وتجاه خطط الولايات المتحدة التي أعلن عنها العام الماضي لتوفير «مساعدات إنسانية» للمتمردين.

بيد ان الوقت قد حان كي تتجه الولايات المتحدة نحو أوروبا بهدف التوصل إلى سياسة مشتركة لرعاية مبادرة سلام عادل ودائم في السودان. وفي هذا السياق، فان الإجراءات التي اتخذت في مجال تجارة الماس ـ مثل الحظر الذي فرض ضد سيراليون بتعاون شركة «دي بيرز»، اكبر شركات الماس في العالم، مع مجموعات حقوق الإنسان ومع مجلس الأمن وعدد من حكومات أوروبا والإدارة الأميركية ـ تمثل نموذجاً بارزاً للتعاون الدولي الهادف للمساهمة في وقف العنف. حقا.. من الممكن ان تتجه إدارة الرئيس كلينتون في عامها الأخير إلى البدء في تصحيح أخطاء عشرة أعوام وذلك بتكوين ائتلاف مماثل من الدول الغربية والشركات المتعددة الجنسيات لقيادة حملة تهدف إلى تحقيق السلام في السودان.

* مديرة مركز فينشتاين التابع لجامعة تفتس في الولايات المتحدة ـ خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»