محنة للجميع

TT

المحنة التي يواجهها الفلسطينيون قلما واجهها شعب آخر. انهم محاصرون بين كلابتين. بقاؤهم في ارضهم الشقية سينطوي على معاناة ابدية من المذلة والحرمان والتضحيات المستمرة. يكفينا ان نتذكر فيهم قول المتنبي: احتمال الاذى ورؤية جانيه غذاء تذوي به الاجسام. الخلاص برحيلهم عن ارضهم ينطوي على استسلامهم النهائي للهزيمة والظلم وخيانتهم لأرضهم وكل من استشهدوا من اجلها. وهكذا يكون الصمود هو الفك الثاني من الكلابتين. لمعظم المحن التي تواجهها الشعوب الأخرى، بمن فيهم الايرلنديون، أجل لمحنتهم وان طال ذلك الاجل. ولكنني حقاً لا أجد أي بريق من النور وراء هذا الظلام الذي يخيم على الشعب الفلسطيني.

بيد أن هذه المحنة لم تعد تقتصر على القدس والأرض المحتلة وانما تتعداها إلى اسرائيل، وعلى المدى البعيد، الطائفة اليهودية في الشتات العالمي. كانت هناك آمال لتطبيع وضع عرب اسرائيل الذين يشكلون سدس سكانها، وتحقيق المساواة بينهم وبين يهودها، كما وعد باراك. هذه عملية تدريجية مرتبطة بولاء العرب لدولتهم اليهودية واندماجهم بهويتها. لا يمكن ان يتمتعوا بالمساواة اذا بقي ولاؤهم واندماجهم مشكوكاً فيهما. فجرت احداث الاسبوع الماضي قنبلة على هذا الطريق عندما هب شبابهم لمساندة اخوانهم وراء الحدود وراحوا يفعلون فعلهم في رشق الشرطة الاسرائيلية بالحجارة بما ادى إلى مواجهات عنيفة اسفرت عن قتل تسعة عرب اسرائيليين. هزت انباء ذلك المجتمع الاسرائيلي وطرحت أمامه شتى التساؤلات. هذه محنة الوجود العربي في اسرائيل ومحنة الاسرائيليين في التعامل مع هذا الوجود. هذا هو القلق الذي عبر عنه صراحة شلومو بن عامي، وزير الخارجية.

هذه كلها محن آنية. ولكن هناك محنة اكبر تلوح وراء افق بعيد. اقصد بها محنة الشتات والوجود اليهودي عالمياً. لقد آمن معظم قادة اليهود في الامبراطورية العثمانية واوروبا واميركا عند بداية الحركة الصهيونية ان هذه الحركة ستعرض الوجود اليهودي وعملية تطبيعه وتحرره ومساواته إلى الخطر، وبصورة خاصة إلى معاداة السامية وتجديد التهمة القديمة بازدواجية اليهود وعدم ولائهم لأوطانهم. جرى نزاع شديد بين هذه الاكثرية الاندماجية والاقلية الصهيونية، ولكن الاخيرة فازت في النزاع، بصورة خاصة بفضل ما اقترفه هتلر.

فازت الحركة الصهيونية وحققت اكثر مما صبت اليه. ولكنني ما زلت اميل إلى الاخذ بوجهة نظر الاندماجيين في خطر هذه الحركة على الشتات اليهودي على المدى البعيد. وعززت تطورات السنوات الفائتة، ولا سيما الأحداث الاخيرة، هذا الاعتقاد.

مال الرأي العام الغربي بعد 1948 إلى التعاطف مع اسرائيل واستنكار تهديدات العرب بمهاجمتها ورمي يهودها في البحر، ولا سيما بعد ما فعله النازيون باليهود. غير ان العدوان الثلاثي عام 1956، ازاح عن الغربيين شيئاً من الغشاوة عن اعينهم. بدأوا يدركون ان العرب لا يشكلون أي خطر على اسرائيل، بل العكس. رأى اليساريون منهم ان اسرائيل هي فعلاً كما وصفها العرب، رأس جسر للامبريالية الغربية. بتوالي الاحداث، اخذ هذا التعاطف مع العرب يتبلور ويتعزز، اللهم باستثناء الولايات المتحدة.

بعد حرب 1967 ووقوع كامل فلسطين بيد اسرائيل، اخذت تنكشف معاملتها العنصرية للعرب وتصرفها كدولة كولونيالية وتجاهلها للمقررات والاتفاقيات الدولية بالنسبة للأراضي المحتلة وحقوق الانسان. هذا في الواقع ما حدا برواد الدولة مثل بن غوريون وابا ايبان إلى مناشدة الحكومة بالانسحاب واعادة الأراضي المحتلة للعرب. شعروا بأن خطراً اخلاقياً وروحياً وسياسياً سيهدد الدولة اليهودية بتوليها مسؤولية هذا العدد الكبير من الاغيار. كانوا يؤمنون بفكرة «الطاهور»، أي طهارة يد المقاتل الاسرائيلي. توليه الحكم على سكان الارض المحتلة سيدنس طهارة يده شاء أم ابى.

ها نحن الآن نرى ذلك. وإلا فكيف يمكننا ان نصف يد ذلك الجندي الذي ظل يطلق الرصاص الحي على طفل بريء مرعوب يحاول عبثاً الاحتماء وراء والده الاعزل؟ ملأت صحيفة «الاوبزرفر» البريطانية صفحتها الأول بهذه الصورة الرهيبة لهذا الطفل وهو يحتمي بوالده. من صور القرن العشرين الخالدة صورة تلك الطفلة الفيتنامية، تركض عارية وتصرخ والنابالم يحرق جسمها. ستكون صورة هذا الطفل الفلسطيني القتيل من الصور الخالدة للقرن الواحد والعشرين. ما هذه واللّه بفاتحة خير للقرن الجديد. ولا هي بمفخرة للسلاح الامريكي في كلتا الحالتين.

عرضت معظم وسائل الإعلام الغربية هذه الصورة وقصة صاحبها وظلت تشير اليها. جسم هذا العرض روحاً جديدة في الاعلام الاوروبي، تندد بسلوك اسرائيل حكومة وشعباً. كان مما اشاروا اليه هذا التضامن المزري من الجمهور الاسرائيلي، بل وتصفيقهم لما جرى. هكذا كتب همي شاليف في «معاريف» قائلاً: «العديد من الاسرائيليين، بمن فيهم القادة، لا يريدون غير «تفليق» العرب بما يوجعهم. الدروس التي تلقوها من الاحداث السابقة تحفزهم لاستعمال المزيد والمزيد من القوة». حتى جماعة «السلام الآن» لازموا الصمت. لو ان شيئاً من هذه الاحداث التي اسفرت عن مقتل ما يقرب من ستين شخصاً، وقعت في أي دولة متحضرة، لرأينا جماهيرها وبرلماناتها وصحفها تضج بالاستنكار وتطالب بالمحاسبة والتحقيق.

اكثر اسفا من ذلك، ان جل الشتات اليهودي ايضاً وقف مثل ذلك الموقف من التضامن اللامشروط. القى اكثرهم باللوم على ياسر عرفات. لم يحسن ضبط وتأديب رعيته! اين سيقودنا كل ذلك؟ سيصبح الحكم الاسرائيلي على العرب كحكم العنصريين في افريقيا الجنوبية في ايام الابارثيد. اليد الطاهور ستنكشف عن يد ملطخة بالقذارة. ولن تفلح الهيمنة على الاعلام الغربي في ادامة الخداع. فكما قال برخت، «نعرف انهم يسمون الحمار حصاناً عندما يريدون بيعه والحصان حماراً عندما يريدون شراءه. ولكن للعين قوة خارقة ولا بد ان يستسلم لها الجميع في الاخير». بانكشاف فظاعة الحكم الاسرائيلي وتأييد الجمهور له وتضامن الشتات اليهودي معه سيعود الغربيون تدريجياً إلى تذكر تصوراتهم اللاسامية وافكارهم العنصرية ضد اليهود. وبمواصلة اسرائيل استغلالها للشتات وتسخير ابنائه حتى لأغراض التجسس، سيعود طرح فكرة الازدواجية وعدم الولاء. قد يبدو بعث موجة ضارية من اللاسامية بعيد الاحتمال الآن، ولكن للتاريخ نفس طويل. لا يحتاج ذلك لغير ازمة اقتصادية عالمية حادة أو تضارب قوي في المصالح بين اسرائيل وبعض القوى الكبرى أو أي ظروف عالمية لا نعرفها الآن. وعندئذ سيترحم اليهود على ارواح قادتهم الذين حذروهم من نتائج الصهيونية.

هل ستنجح هذه الاقلية من اليهود الشرفاء، داخل اسرائيل وخارجها، الذين لم يجرفهم عمى التضامن الصهيوني ورفعوا اصواتهم عالياً في التنديد بما تقوم به اسرائيل في تجنيب الشتات مثل تلك النتائج وخلق ظروف لتفاهم عربي ـ يهودي نبيل يعطي هذه الشعوب السامية فرصتها في خلق نهضة شرق اوسطية تذكرنا بأمجادها السابقة وتصبح مركز قوة حقيقية في العالم؟ للتاريخ نفسه الطويل وللأمل ايضاً انفاسه.