«البلدوزر» الذي تحول بطلاً

TT

قبل أيام كنت استمع الى بعض الاذاعات العالمية التي كانت تبث برامج حية، عشية انعقاد قمة شرم الشيخ، تسأل فيها بعض الخبراء العرب والاسرائيليين عن رأيهم في القمة، وعن النزاع العربي ـ الاسرائيلي إجمالاً، لا سيما في هذه الأيام الحالكة. وكانت تعزز هذه الندوة مكالمات هاتفية من قبل بعض المستمعين، فضلاً عن رسائلهم الالكترونية التي كانت ترد مباشرة.

وهالني ان اسمع اقوال المستمعين الاسرائيليين واليهود الذين يقطن بعضهم اوروبا واميركا واستراليا، والأسلوب الذي يفكرون به. اذ ان المنطق الغريب الذي كانوا يرددونه هو ان اسرائيل هي البلد الديمقراطي الوحيد في المنطقة، وانها تتميز عن غيرها من الدول الآسيوية والافريقية بمكانتها الرفيعة على الصعيد الانساني والحضاري، وبالتالي فانها اعلى مرتبة، وعلماً وتقنية ايضاً، من سائر الدول المجاورة، ومن الشعب الفلسطيني بوجه خاص، لأنه شعب لا يعرف سوى الحجارة والديماغوجية سبيلاً للمطالبة، وان كفاحه لا يعدو عن اعمال شغب ينبغي ان تقمع بسلاح القوة، حتى لا يتحول العالم الى غابة كبيرة تسود فيها شريعتها فقط. وهكذا، فان كان لهذا الشعب اي مطالب، واستجابت اسرائيل لبعضها، فهي منة منها ليس الا، تقدمها شفقة عليه لانقاذه من وضعه المزري الذي يعيش فيه، والذي ليس لها اي دخل فيه.

منطق غريب فعلاً، والأغرب منه ان بعض الذين يرددونه هم من المثقفين الكبار، والمحامين والمهندسين والأطباء والأكاديميين.

صحيح ان قلة منهم كانت تتكلم ببعض العقلانية، لكنهم قلة لا اكثر ولا اقل، ضاع صوتها وسط البحر الصاخب من الحقد الأعمى على هذا الشعب الضعيف الذي يناضل يومياً منذ امد طويل وسط معركة غير متكافئة يزيدها سوءاً انحياز الولايات المتحدة بكل ثقلها ضده، رافعة راية حقوق الانسان، وشعار النظام العالمي الجديد. هكذا بلا خجل، او حياء، ومن دون اي وازع ضمير.

والأغرب، نعم، الأغرب من كل ذلك ايضاً، ان بعض المستمعين الاميركيين، وليس الاسرائيليين منهم فحسب، اعتبروا الجنرال شارون الملقب بـ«البلدوزر» ـ الجرافة الآلية ـ نظراً لكرشه الضخم ومشيته المغرورة المتحدية، بطلاً قومياً يشار اليه بالبنان، رغم انه تسبب في اطلاق الشرارة التي فجّرت حلقة العنف الاخيرة بتدنيسه حضورياً الحرم القدسي الشريف.

طبعاً تمنوا لو ان الولايات المتحدة، مثلاً، تملك شخصاً من هذا العيار وبالمواصفات ذاتها لحماية شعبه وأمته، كما يفعل شارون، متناسين سجله الاجرامي السابق.

بعضهم مع ذلك اعترف باجرامه، لكنه بررها بأنها كانت من الضروريات التي لا بد منها لحماية المصالح الاسرائيلية، مستشهداً بشخصيات تاريخية لا تقل عنه عنفاً وشراسة على حد قولهم، مثل ستالين وتيمورلنك وغيرهما، الذين رغم سطوتهم وبطشهم صنعوا التاريخ، وتمكنوا من توحيد صفوف شعبهم، ووسعوا رقعة بلادهم، وعززوا سطوتها رغم حمامات الدم.

وفوق هذا وذاك، لا يزال شارون يحتل مركزاً بارزاً في السياسة الاسرائيلية. فهو يتزعم حالياً حزب الليكود المعارض. ومع احتمال سقوط حكومة باراك في اي وقت، يبرز «الجنرال الشهير» كأحد اهم المرشحين لرئاسة الحكومة اذا ما فاز في الانتخابات الجديدة، وهنا يكون قد نال مكافأته كلها على الجرائم التي اقترفها طيلة حياته المديدة. ان سجله حافل بأعمال القتل والتشريد، ففي احدى الغارات التي قادها قتل 69 فلسطينياً غالبيتهم من النساء والاطفال. ثم انه كان قائد الفرقة التي احدثت ثغرة الدفرسوار ابان حرب رمضان 1973، وشارك ايضاً في قتل الاسرى المصريين العزل من السلاح، كما تبين لاحقاً بعد سنوات عديدة، وهو الذي اجتاح لبنان عام 1982 مرتكباً مجازر صبرا وشاتيلا بدم بارد وراحة ضمير.

ومع ذلك يتحول هذا الشخص الذي تنبغي محاكمته امام محكمة دولية الى بطل شعبي، مثل بسمارك موحد المانيا، كما شبهه احدهم. وهنا المفارقة التاريخية والمنطق الأعوج لبعض الشعوب.