محرر ومؤسس

TT

غطت الاحداث العربية الكبرى، حدثاً عالمياً واوروبياً واسلامياً حفر لنفسه مكانة في التاريخ. ففي الرابع عشر من اكتوبر خرج من الحكم الى التقاعد مؤسس البوسنة واول رؤسائها وقائد معركة وجودها واستقلالها، الرئيس علي عزت بيغوفيتش.

خرج من الحكم «متعباً ومريضاً ولم يبق امامي شيء سوى الموت». لكن هذا الرجل الهادئ البسيط والمتواضع، ترك خلفه سيرة من سير العمالقة. فقد رأى فيه البعض ديغول آخر ورأى فيه آخرون رديفا لمؤسس ايرلندا ومحررها ايامون دو فاليرا.

لكن عزت بيغوفيتش كان يفضل دائما ان يشبه برجل وطني هادئ من بلاد البشناق يدعى علي عزت بيغوفيتش. ذلك ان البوسنة ليست ايرلندا ولا هي في حجم فرنسا، كما يقول. وكان الزعيم البوسني يخوض حربه على اكثر من جبهة وضد اكثر من عدو: من جانب ديكتاتور كرواتيا فرانكو توجمان، ومن جانب آخر جلاد صربيا سلوبودان ميلوشيفتش. وقد كان من حظه ان يرى كليهما يذهب قبل ان يحين موعد تقاعده: توجمان الى الموت وميلوشيفتش الى السقوط.

الحرب الديبلوماسية كانت اقسى معارك الزعيم البوسني: موقف اميركا المتردد في البداية، ومواقف الاوروبيين المتناقضة او المخادعة: «كنت اعرف ان فرنسوا ميتيران كان يعمل ضدنا. لكنني عندما كنت اقابلة كان يذوب وداً. وذات مرة جاء في زيارته الشهيرة الى سراييفو العام 1992 فقدمنا اليه هوية الشرف. فوقف يخطب قائلا: «ان هذا يعني انه اصبح لي الآن الحق في الاقتراع. واذا اقترعت فسوف انتخب ضدكم». وكنت اعرف انه يعني هذا الكلام».

اعتمد بيغوفيتش في حربه الاستقلالية، مثل كل زعيم مقاتل، على مصادر كثيرة. وكانت الطائرات الصغيرة تهبط في مناطقه وهي تحمل السلاح مموهة بألوان الامم المتحدة «لكن هذه الشحنات لم تكن كلها ممولة من الاميركيين بل ايضا من بعض الدول المسلمة مثل تركيا والامارات وايران وغيرها».

يقول عزت بيغوفيتش «للموند»: «الغربيون لم يستطيعوا فهمنا. نحن مسلمون من اوروبا. لكننا ايضا متعلقون بالقيم الاوروبية. ان فكرة البوسنة نفسها هي فكرة اوروبية. لذلك لم نفهم من الحظر الاوروبي سوى ان الهدف منه هو رمينا في ايدي اسوأ اعدائكم». يترك عزت بيغوفيتش الحكم وفي نفسه مرارة كبرى من الغرب والاسرة الدولية. وعندما يُسأل عن مكان مجرم الحرب كاراديتش الفار من العدالة الدولية يقول «انه هنا على بعد عشرين كيلومترا او ثلاثين، فلو كانوا يريدون حقاً اعتقاله لما كان هناك اسهل من ذلك».

كان بيغوفيتش محامياً لدى الدولة براتب عادي. وقد رفض الدخول في الحزب الشيوعي من اجل الحصول على المكاسب التي تقدمها العضوية فيه. وفي لقاءات الامم المتحدة او اللقاءات الدولية الاخرى كنت اراه رجلا يتنقل وحيداً بين الزعماء والمسؤولين في حراسة مرافقه الامين «عثمان». والى التواصع الجم، كان يبدو عليه دائماً الوقار والاحترام. وقد تركت سنوات السجن على ملامحه مرارة دائمة. وكان يبدو باستمرار وكأنه لا يستطيع ان يستكمل ابتسامته، حتى لو كانت من قبيل اللياقة.

كانت محنة البوسنة وتجربتها عملا فريداً من نوعه في اوروبا. ويعود الى الرجل الذي تقاعد يوم السبت الماضي الفضل الاول في اقامة الدولة الاولى من نوعها في اوروبا الوسطى. وقد استطاع ذلك برغم كل القوى التي وقفت ضده وبرغم كل العناصر. ومعه عادت سراييفو كما كانت مدينة نموذجية وهادئة برغم كل ما عرفت من موت وقتل.