أوسلو: هذا ما حدث للنص!

TT

عندما دخل شارون الحرم القدسي كان ذلك ذروة «المناخ السلمي» الاسرائيلي... وآخر الخط الاحمر الفلسطيني اختلف الكثيرون من العرب حول اتفاق اوسلو لدى اعلانه في 13 سبتمبر (ايلول) 1993. ورأى فيه فريق كبير من الفلسطينيين اجحافاً وتفريطاً في الحقوق. وضم هذا الفريق اهل «الاعتدال» واهل «التطرف» على السواء. سياسيون «معتزمون» مثل عبد المحسن القطان وادوارد سعيد، وزعماء ناشطون مثل الشيخ احمد ياسين. ولم يكن الاعتراض محصوراً في النصوص والبنود، بل تعداها الى الاعتراض على المفاوضين وعلى الصيغة والاسلوب وجو السرية الذي جرت فيه المفاوضات.

كان هذا موقف «المثاليين»، الذين رأوا ان الفلسطيني الذي صبر كل تلك الاعوام، يمكنه ان يصبر اعواماً اخرى في انتظار حل يمكن ان يُكتَب له البقاء، حل اكثر وضوحاً ونضوجاً... وخصوصاً اكثر عدلاً. غير ان الفريق الآخر، الفريق «العملي»، كان ينظر الى اتفاق اوسلو على انه انتصار سلمي توج سنوات النضال العسكري الذي مَرّ في مراحل واشكال كثيرة، وانه خطوة في الوجود بعكس الخطوات السابقة التي كانت في الفراغ والشتات. فقد كانت اهمية خطوة اوسلو، على تواضعها ومحدوديتها، انها نقلت او اعادت الفلسطينيين الى «الارض». فلم تعد المنظمة او مؤسساتها ضيفة في بيروت او عمان او تونس، بل اصبحت الآن في غزة، تحلم من هناك وتعمل من هناك، بدلاً من اعلان حكومة المنفى من الخارج.

الحقيقة ان الاسلوب الذي صيغت به اتفاق اوسلو لم يكن، من الناحية النظرية، سيئاً بل كان غامضاً. وصحيح انه كان يعيد المؤسسات الفلسطينية «الى الارض» لكنه ترك كل شيء في الهواء. ولم يكتب كاتفاق نهائي محدد ومحدود، بل كمدخل الى تجارب غير واثقة من نفسها ومهددة بالاهتزاز رغم انه نص على «المصالحة التاريخية».

لقد اعترفت المنظمة واسرائيل «بالحقوق الشرعية والسياسية المتبادلة» واتفقتا على «العمل من اجل الحياة في مناخ من التعايش السلمي والاحترام والأمن المتبادلين واقامة سلام عادل ودائم وشامل بالاضافة الى تحقيق المصالحة التاريخية». ومن الناحية النظرية لا يمكن ان يكتب نص في صيغة اكثر تراضياً: الحقوق «متبادلة» والاحترام والأمن «متبادلين» ايضاً، والسلام «عادل وشامل». والاكثر اهمية من كل ذلك كله هو المناخ. انه هنا مناخ «التعايش السلمي».

كانت تلك، او يفترض ان تكون، كلمة السرّ. فمن دون مناخ حقيقي لا يمكن تحقيق اي شيء. ومن دون ثقة متبادلة لا يمكن تبادل اي احترام او اي امن او اي حقوق. وقد حضرت الاتفاقات وغاب المناخ. ولنتذكر قليلاً الآن مرحلة نذكرها جميعاً وعشناها جميعاً ولم يمض عليها اكثر من سبع سنوات: لقد سارعت منظمة التحرير الى تطبيق «حصتها» من الاتفاق بل «هرولت» في ذلك. واقدم ياسر عرفات، امام دهشة واستغراب جزء كبير من العرب، على ضبط المعارضين في الداخل واودع غلاتهم السجون ووضع الشيخ احمد ياسين في الاقامة الجبرية.

لكن اسرائيل ظلت تماطل خمسة اشهر قبل ان تسحب الجيش من غزة واريحا. ثم كرت الاحداث على «مناخ» التسوية دون توقف: شباط (فبراير) 1994 يفتح باروخ غولدشتاين النار على المصلين في الحرم الابراهيمي: مستعمر قادم من بروكلين «يعبّر» عن مشاعره حيال الارض التي جاء يستعمرها بفتح النار على المصلين، اثناء صلاة الفجر، وفي شهر رمضان، ولا يتوقف الا بعد ان يقضوا عليه بايديهم المجردة. ثم يقدم بعد عام اسرائيلي آخر على التعبير عن المشاعر حيال السلام، عندما يطلق الرصاص على اسحق رابين من الخلف العام 1995. وبعد قليل يتحول التعبير عن «المشاعر» الى مسألة جماعية عندما تنتخب اسرائيل بنيامين نتانياهو زعيماً عليها.

رمى نتانياهو اتفاق اوسلو من النافذة بصلف واستعلاء وعجرفة لا مثيل لها. رفض الاستمرار في لقاءات ياسر عرفات، وادار ظهره للبيت الابيض. وتحول «احترام» الحقوق «المتبادل» الى حرق لها من طرف واحد. وبدل مناخ «التعايش» خيم مناخ من الكره والحقد وازدراء المواثيق والمعاهدات. واصبح يطل على العرب ـ والعالم ـ كل يوم، رجل متهم بالعلاقة مع المافيا وضرب جليسة اطفاله وسرقة مقتنيات رئاسة الوزراء، رجل يتصرف كالزعران ويمشي مثلهم ويهدد مثلهم... ومثلهم «يفك» قبة قميصه في تقليل الاحترام للآخرين ـ والغاء الاحترام لذاته.

من اجل ان يعيش اتفاق اوسلو وينمو ويستمر، كان في حاجة الى الحد الادنى. وهذا الحد الادنى يفرض ان يعطيه الفريق القابض على زجاجة الاوكسجين: الفريق الذي ينشر الجيش. الفريق الذي ينشر المستوطنات. الفريق الذي يطوق المطار. الفريق الذي يطوق المداخل والمخارج. الفريق الذي يشدد الخناق على الايدي العاملة والايدي البطّالة والايدي المسكينة! كان يجب ان يُدْرَك، مع مقتل رابين وفوز نتانياهو، ان اتفاق اوسلو قد مات برصاصة في الظهر وطعنة في الصدر. وقد اخفقت في ان تبعث فيه الحياة جميع الاتفاقات اللاحقة: اوسلو 2 (1995) واتفاق الخليل (1997) واتفاق «واي ريفر» (1998) وشرم الشيخ (1999) واخيراً طبعاً مفاوضات كامب ديفيد التي اخفقت حتى في الوصول الى اتفاق على الاتفاق.

نعود الى كلمة السر: المناخ! منذ اتفاق اوسلو وامامي صورة لا تتغير: صائب عريقات خارجاً من قاعة المفاوضات شاكياً، او داخلاً الى قاعة المفاوضات وهو يحذر. وليس هناك ما هو اكثر تعبيراً عن حالة الاتفاق سوى صوت صائب عريقات، المتعثر دائماً بحنجرته، وهو يعرض لما حدث. او بالاحرى لما لم يحدث. والذي لم يكن يحدث على الدوام، هو حلول المناخ المؤدي الى «المصالحة التاريخية».

العكس كان يحصل دائماً: بارون غولدشتاين، ييغال عمير، وارييل شارون في الحرم القدسي. وكان يرافق ذلك، في صورة ملازمة ومتوازية، اعتداء يومي في جنوب لبنان المحتل، ورفض يومي في التقدم على المسار السوري الذي اعلنت اسرائيل توقفه من جانب واحد. ولا تزال.

كان يفترض ان يكون كل شيء قد انتهى بعد مرور خمس سنوات على اتفاق اوسلو. لكن بعد سبع سنوات («الموند») لم يكن ياسر عرفات قد بسط من سلطة حقيقية سوى على 70 % من غزة (360 كيلومترا مربعا) و13.1 % من الضفة (5.673 كيلومتر مربع) ولا شيء من القدس. اي ما مجموعه 20 % من الاراضي التي احتلتها اسرائيل العام 1967 والتي لا تشكل بدورها سوى 22 % من ارض فلسطين.

شيء آخر عن «المناخ»: لم تتوقف عملية الاستيطان في الضفة الغربية، لا في ظل حكومة رابين، ولا بيريز، ولا نتانياهو، ولا باراك. ومنذ توقيع اوسلو الى اليوم بنى الاسرائيليون 11.900 مسكن جديد، ووطنوا 75 الف مهاجر جديد (الاحصاءات اسرائيلية) في حين دمر جيش «الدفاع» 895 منزلاً فلسطينياً واصبح 13 الف فلسطيني (منذ 1988) بلا سقف، وتمت مصادرة 35 الف هكتار من الاراضي. وما بين اوسلو و«كامب ديفيد 2»، كان هناك 331 يوماً من التعطيل الارغامي. اما ضحايا «المناخ» السلمي فبلغ عددهم في الفترة نفسها 385 مدنياً فلسطينياً، و23 شرطياً على ايدي قوات الأمن او المستوطنين، مقابل 171 اسرائيلياً في عمليات تفجير و92 جندياً في المواجهات! في مثل هذا «المناخ» ذهب ياسر عرفات الى كامب ديفيد، حيث تفجر كل شيء. فقد اكتشف الفلسطينيون ان الشيء الوحيد الذي سيحصلون عليه هو المساعدات الاميركية الضخمة لقاء المزيد من التنازلات في الاراضي ولقاء تنازل كامل وكلي في موضوع العودة. واكتشف ياسر عرفات ان المطلوب منه هو حماية حكومة باراك من السقوط، وان المطلوب منه وحده ان «يتأمل» في عزلة كامب ديفيد.

لذلك، عندما دخل شارون الى الحرم القدسي كان ذلك ذروة «المناخ» السلمي الاسرائيلي... وآخر الخط الاحمر الفلسطيني.

#