السلام والتعايش والموت

TT

غاب عنا جميعاً، في حمى الحريق وصورة الموت المتتابعة، ان انتفاضة الاقصى كانت اكبر واعنف مواجهة على الارض الفلسطينية بين الفلسطينيين والاسرائيليين، منذ 1967، فالمواجهات الواسعة الاخرى جرت في لبنان، اما الانتفاضة الاولى فقد خلت من السلاح الفلسطيني وجرت قبل وصول السلطة. لكن هذه المرة، شملت المواجهات اراضي 1948 ودخل المستوطنون طرفاً وعمت الاشتباكات الضفة.

لذلك طرحت، للمرة الاولى منذ اتفاقات اوسلو، مسألة التعايش لا مسألة الحل: هل التعايش حقاً ممكن بعد؟ لقد ذهب الرد الاسرائيلي على تظاهرات الاستنكار الى ابعد بكثير من عملية ضبط تظاهرة. وعندما قرن مشهد ارييل شارون داخلاً الحرم بحراسة مئات الجنود، ومشهد طائرات الهليكوبتر تقصف المعترضين، بدا ان اسرائيل تعلن الحرب في الاراضي المحتلة وليس القمع. واذ تساقط الفلسطينيون بالعشرات ثم بالمئات في خلال ايام، بدأ الكتاب الاسرائيليون وبعض المفكرين اليهود في اوروبا، بطرح المسألة الوجودية الاسرائيلية على المحك وليس فقط عملية السلام.

وربما هذا بالذات ما حمل ايهود باراك على التحدث بلغة الوجود يوم الاربعاء الماضي عندما قال لزعماء الاحزاب «الوقت ليس وقت سياسة ضيقة الافق، فالبلد اهم من معارك سياسية لاعتبارات شخصية. معاً ستنتصر الروح الاسرائيلية والصهيونية ستنتصر». وبدا مثل هذا الكلام وكأنه ردّ على مقال كتبه مستشار فرنسوا ميتيران السابق جاك اتالي في «الاكسبرس» الفرنسية وقال فيه «ان الحلم الصهيوني كما رسم قبل مائة عام قد انتهى». وقال اتالي ان التفوق العسكري الاسرائيلي لا معنى له، اما دخول اسرائيل في السلام فيعني ذوبانها في المحيط العربي الاكبر «ولن تعود بعد ذلك دولة يهودية».

لقد كان التفجر هذه المرة اضخم من اي توقع. وانهت ردة الفعل، في ما انهت، مسألة «القرار الفلسطيني المستقل». فقد عاد القرار الفلسطيني عربياً، شاء ام ابى. ليس على صعيد القمة والحكام، بل على صعيد الناس ايضاً وخصوصاً. وكما طرح المفكرون اليهود المسألة من الناحية الوجودية، طرحها كذلك الشاعر محمود درويش، الرمز الفلسطيني الاكثر تعبيراً عن النبض العفوي.

فقد قال محمود لمنى نعيم في «الموند»: «ثمة فرصة معقولة للتوصل الى وقف لاعمال العنف. ولكن في المقابل اصبح من الصعب التحدث عن السلام والتعايش. فقد اصبحت فكرة السلام لدى المجتمعين مهددة بالموت واصبح التعايش مجبولاً بالدم». ان اسرائيل تضحي، يقول محمود درويش، ليس فقط بفكرة التعايش مع الفلسطينيين، بل بقبول العرب والمسلمين بوجودها كأمر واقع، ولذا «مطلوب من الولايات المتحدة واوروبا التدخل لاقناع اسرائيل بأنها في صدد قتل جميع مكاسب السلام وزعزعة العالم العربي وتهديد المصالح الاميركية».

يقول محمود درويش: «سوف يهدأ الفلسطينيون فقط اذا اعطوا حلاً او وعداً حقيقياً بالحل. الفلسطينيون ليسوا هواة دماء والانتفاضة ليست مهنة. انها وسيلة للدفاع عن الحقوق. ما الذي حرك الفلسطينيين؟ الشعور بأن الافق مسدود كلياً وان السلام اصبح عملية فارغة».

يقول جاك اتالي المعروف بالتعاطف مع اسرائيل واحد ابرز اهل النخبة الفرنسية من اصول يهودية: «في صورة عامة، اسرائيل مهددة بالزوال بالحرب او بالسلام او بهجرة نخبها التي تخاف الحرب كما تخاف السلام»... «ومن الجانب الاسرائيلي كما من الجانب الفلسطيني، اصبحت الوحدة تقوم حول كره العدو. وشرعية الزعماء اصبحت تقاس بقدرتهم على التحدث باسم المتطرفين بدل قدرتهم على تهدئتهم».