اختصر!

TT

شكا لي زميل، متذمراً من انه دعي الى ثلاثة برامج تلفزيونية في ثلاثة ايام، وانه اعتذر عنها جميعاً. وقلت له، لماذا التأفف؟ انا اغبطك على ذلك؟ قال، «لأنني لا اشعر انني استطيع ان اقول في خمس دقائق ما لدي ان اقول، هذا اولاً. ثانياً لا اطيق عبارة «باختصار اذا سمحت»، فاذا كان الزميل المضيف لا يريد سماع رأيي كاملاً فلماذا دعاني في الاساس؟ وثالثاً لأنني لا املك الوقت».

قلت ساخراً، وما هي مشاغلك؟ من هو الذي لا يملك خمس او سبع دقائق؟. اجاب: «يتطلب الظهور في اي برنامج، ثلاث ساعات على الأقل، وقت الاستعداد. والرحلة الى المحطة. والانتظار هناك حوالي نصف ساعة للضرورات التي لا يمكن التحكم فيها. وبعد ذلك رحلة العودة». واضاف: «تسع ساعات في اسبوع واحد هو يوم عمل كامل، فهل لديك فائض من الوقت الى هذا الحد؟».

قلت، لا، لا لدي ولا لدى احد. ولكن الظهور التلفزيوني هذه الايام استكمال للعمل الصحافي. كل عامل في الصحافة المكتوبة يحتاج الى ان يقدم نفسه «على الهواء» لقارئه. وكل قارئ له محطة تلفزيونية او أكثر، يرجع اليها بالاضافة الى صحيفته. انها عملية استكمال، او استطراد اذا شئت، خصوصاً في مراحل الغليان. قال: «هذا صحيح، تماماً صحيح. لكنه لا يحل مشكلة الوقت. ولا مشكلة الظهور. واقصد هنا ان السياسيين ينتقلون من محطة الى محطة كجزء من حياتهم وسعيهم الى اثبات وجودهم ومخاطبة الناس. لكن هذا ليس ظرفي ولا وضعي. وانني اخشى دائماً ان اصبح جزءاً من هذه «الدوشة» التلقائية. كل برنامج يستضيف زميلاً. وكل زميل ينتقل من برنامج الى آخر. وكل يوم. وفي النهاية يضطر الى ان يقول هنا ما قاله هناك، وان يسمع كل مرة مضيفه وهو يقاطعه قائلاً: «باختصار اذا سمحت».

قلت، هذا تعبير بلا غبار. وحسن النية واضح. والمقدمون الاجانب يستخدمونه باستمرار، وبكل تأدب. ففي الصحافة المرئية قواعد مثل الصحافة المكتوبة. الزاوية ليست في حجم المقال، والمقال ليس في حجم الدراسة. فلماذا يثيرك اذا خوطبت كما يخاطب غيرك؟ ان عبارة باختصار تستخدم في البرامج الاخبارية الآن مقدار ما تستخدم عبارة «مساء الخير». قال: «انا لا اغضب، انا اختار. هذا كل شيء. قلت لنفسي، بعد حسابات دقيقة لحياتي وعملي وعمري، انني لا املك ثلاث ساعات احولها الى ثلاث دقائق اقول خلالها رأيي في حدث ما ثم امشي. فعندما يمضي واحدنا في هذه المهنة عمراً لا يعود رأيه هو المهم بل ما اختزن وما قرأ وما خبر وما رافق وما رأى. فالمضيف الذي يدعوني لا يفعل ذلك لأنني قرأت صحيفة الصباح او شاهدت النشرة الاخبارية. انه يدعوني ـ كما يدعو جميع ضيوفه ـ للاصغاء الى خبرة عشرين او ثلاثين او اربعين عاماً. ولست من النوع الماهر الذي يستطيع تقديم ذلك في ثلاث دقائق. لقد جربت الامر فترة طويلة. وفي النهاية توصلت الى قرار شخصي فردي ضمن حريتي الذاتية، وهو الاعتذار عن جميع البرامج الخاطفة. اولاً، لأنني اذا ملكت ثلاث ساعات من الوقت فلن اذرها في ثلاث دقائق، وثانياً لأنني غير قادر على القبول بقاعدة تلفزيونية ضرورية تقضي بأن يطلب مني مضيفي، بعدما هدرت من اجله ثلاث ساعات، بأن يطلب مني بكل تهذيب، الاختصار.

فعندما كنت صغيراً كان والدي كلما اراد ان يؤنبني قال لي: «اختصر!».