عرب السيف.. وعرب صندوق الاقتراع

TT

كنت في الماضي استغرب جملة «حال لا تسر عدواً ولا صديقاً». فمن الطبيعي الاّ تسر الاوضاع السيئة لصديق ما صديقه، لكن كيف يمكن الا تسرّ العدو؟ كنت استغرب، واظن ان هذه الجملة مثل الكثير مما نقوله يومياً... مجرد كلام استهلاكي يجمع المبالغة الى الفصاحة الى اللا معقول. وما اقدرنا في مضمار اللا معقول.

لكنني اخيراً اهتديت، ولله الحمد، وادركت بصورة قاطعة ان حال امة العرب باتت من السوء بحيث لم تعد حقاً تسرّ حتى العدو! فالعدو يمكن ان يشعر إزاء عدوه احياناً بالريبة، واحياناً بالحقد، تارة بالشماتة وطوراً بالاحتقار، لكن ان يصل الى مرحلة الأسف والضيق...فهذه مرحلة متقدمة من «الحال المايل» قلما وصلت اليها امة من الامم قبلنا، وأشك في ان تبلغها امة ـ وضعها بمثل وضعنا وثرواتها بحجم ثرواتنا ـ بعدنا.

قضيتان تشيران ببلاغة الى هذه الحال، الاولى تجري احداثها في الاراضي الفلسطينية المحتلة وتتردد تداعياتها في غرف الاجتماعات العلنية والسريّة على مختلف المستويات، والثانية تمثّل فصولها في الولايات المتحدة، القوة العظمى الوحيدة في العالم اليوم على هامش انتخابات الرئاسة الاميركية. لقد مر اكثر من شهر كامل على تفجر «انتفاضة الاقصى» وسقط فيها حتى الآن اكثر من 160 شهيداً. واثبتت الأيام ان هناك ديناميكية ما تتحرك على الارض ساحبة اعترافها بشتى القيادات، الفلسطينية والعربية... وطبعا الدولية. وقد اقتنع الشارع الفلسطيني بأن لا جدوى من سياسة تنازلات لا تنتهي ويستحيل ان تتوّج بحل مشرف قادر على الحياة. فإعلان الدولة الفلسطينية مرفوض، ومنع تطويق القدس بالمستعمرات المتعالية الخانقة مرفوض، والكلام عن تسوية مسألة اللاجئين مرفوض، و.. و.. كله مرفوض! إزاء كل هذا جاء الرد بقمتين يجب القول صراحةً انهما كانتا ليس فقط دون مستوى الحدث، بل اسهمتا في فضح مدى انهيار النظام السياسي العربي واتساع الهوّة بين «شرعيته» الرسمية، و«شرعيته» التمثيلية. والحقيقة ان اسرائيل وسط ازمتها الداخلية اخذت تشعر بهذا الواقع الخطير قبل اركان هذا النظام، إذا سلمنا جدلاً انه يستحق هذا المسمى اصلاً. فإسرائيل المزروعة زرعاً في قلب العالم العربي اعتبرت في الماضي ان إجهاض الديمقراطية في العالم العربي مسألة ضرورية لنموها وتقدمها. وفعلاً استفادت على امتداد نحو خمسة عقود من تعطيل الديمقراطية، ومن مصادرة «العسكر» آليات القرار السياسي وشرعية «التحرير» المزعوم. وها هي الآن محاطة بأنظمة إما عاجزة عسكرياً او عاجزة سياسياً او عاجزة اقتصادياً او عاجزة ثقافياً عن مجابهتها وتحديها، ناهيك من التغلب عليها.

ولكن هناك عقولا داخل اسرائيل، يهودية وعربية، ترى اليوم ان اسرائيل زجت نفسها في بئر... ولا خلاص لها الا بانتصار شيء من الديمقراطية، النامية نمواً طبيعياً ـ لا افتعالياً ـ في العالم العربي. فلدى اسرائيل من اسباب القوة والدعم الدولي ما يكفي لتغلبها على الانظمة العربية مجتمعة في اي حرب. لكن العقلاء فيها ـ وهم مع الاسف اقلية حتى الآن ـ يعون ان مستقبلهم مرتبط بالتعايش مع الشعوب لا الانظمة. وبالتالي فالحرب الوحيدة التي لا بد لإسرائيل من كسبها هي حرب السلام مع هذه الشعوب. وبما ان اي صفقة سلام تحتاج لصدقية التمثيل... فإن صدقية التمثيل تؤدي حتماً الى شكل من اشكال الديمقراطية، اي الحرية الواعية والمنظمة والمسؤولة القابلة للمحاسبة.

إذاً..الديمقراطية في العالم العربي أضحت في صالح اسرائيل بعدما تآمر عليها حكام اسرائيل طوال ما يقرب من نصف قرن. وهذه الرسالة يجب ان تصل قبل فوات الأوان لكل القيادات العربية التي ما زالت تعيش اوهام الماضي، وتتصوّر ان ضعفها في وجه العدو ضمانة لاستمرارها وبقائها. نعم... اضحت بعض هذه القيادات عبئاً حتى على اسرائيل التي كانت راضية بها كشاهد زور وطرف محايد في الصراع المصيري الذي لف المنطقة وما يزال.

الانتخابات الاميركية وبمناسبة الكلام عن الديمقراطية لننتقل الى الانتخابات الاميركية، والدور الذي يمكن للعرب والمسلمين الاميركيين ان يلعبوه.

بالأمس اصغيت بكثير من الدهشة الى شخصيتين عربيتين مسلمتين اميركيتين تتكلمان الى محطة تلفزيونية عربية فضائية عن «الاختراقات» التي حققتها الجماعات الاسلامية على الساحة الانتخابية الاميركية، وكيف صار بإمكان المسلمين والعرب التأثير على الانتخابات، على الاقل في بعض الولايات المحوَرية الحسّاسة. وتكلّمت الشخصيتان بثقة تحسدان عليها باتجاه دعوة الناخب العربي للتصويت للمرشح الجمهوري جورج ووكر بوش، ودافعتا عن قرار بعض الجماعات الاسلامية تأييد بوش علناً في معركته ضد المرشح الديمقراطي آل غور.

بادئ ذي بدء، اشك في ان يكون «اللوبي» الاسلامي قد هضم كما يجب الاعتبارات التي تتحكم بتقنيات الانتخابات الاميركية. والتبسيط المفرط لأفضلية هذا الحزب على ذاك في مسألة التعاطي مع الشأن العربي مسلك خطير ومسيء جداً. اكيد من حق اي جماعة او تنظيم اعلان التأييد لهذا المرشح او ذاك، هذا الحزب او ذاك، ولكن ليس من حق احد احتكار الموقف العربي او المسلم، بل ليس من مصلحة العرب والمسلمين ان يدّعي هذا «الأحد» انه ادرى بالصالح العربي والاسلامي، وهو انما يتصرف خدمة لهذه القضية العربية او الاسلامية.. او تلك.

قبل ان يساء فهم ما اقول، اسارع الى القول ان التنسيق بين مختلف التجمعات العربية والاسلامية ضروري. ولكن هناك جوانب «تكتيكية» وجوانب «استراتيجية» للعمل السياسي، وبخاصة في الممارسات الانتخابية، وبالاخص اكثر في بلد بتنوع الولايات المتحدة وتفاوت مكوناتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية.

لا خلاف على ان سجل غور إزاء القضية الفلسطينية معيب، وطبعاً اختياره السناتور جوزيف ليبرمان ليكون نائباً له إذا بلغ «البيت الابيض» ثبّت النظرة اليه على انه سياسي ملتزم التزاماً كاملاً بتأييد اسرائيل. غير ان تصوير جورج ووكر بوش ـ(الذي يقود حزبه حملة نقل السفارة الاميركية الى القدس) ـ وكأنه خالد بن الوليد.. موقف خاطئ ومضلل. ومن مصلحة العرب والمسلمين الاميركيين التصرف على إساس فهم نسيج المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه ومن ثم التحالف بوعي وتبصّر مع من يقاسمونهم مصالحهم المشتركة، مرحلياً وعلى المدى البعيد.