السلام الملتبس

TT

منذ حوالي سنة كان روبير أسراف، رئيس التجمع العالمي لليهود المغاربة، قد خصص كتابا من حوالي أربعمائة صفحة عن مستقبل السلام بعد إسقاط نتانياهو، دار في مجمله حول الأزمة التي تعرفها إسرائيل في عهد «ما بعد الصهيونية» خاصة بعد وقوع أول اغتيال سياسي ذهب بحياة رئيس الوزراء إسحاق رابين وألقى بإسرائيل فى دوامة الأسئلة الصعبة عن الحاضر والمستقبل.

واعتبر المؤلف حينئذ أن نتانياهو كان حادث سير في مسلسل السلام لن يعرقل المسيرة التي بدأها رابين، وذلك بفضل جنوح الرأي العام الإسرائيلي إلى السلام، وبيان أضرار الموقف المتشدد من حيث العزلة الدولية والآثار الاقتصادية. وذكر المؤلف بما كانت جريدة «هآرتز» الليبرالية قد لخصت به الأوضاع حين كتبت عن رئيس الوزراء الذي ذهبت به انتخابات مايو 1999: «لقد جاء، وحطم ما حطم، وذهب إلى حال سبيله». لا أدري ما عساها كتبته الآن عن إيهود باراك. ولكن الحصيلة ماثلة للعيان. لقد أعلن على رؤوس الملأ إيقاف محادثات السلام. ولا حاجة إلى مؤبن. إن دافن أوسلو لم يفاجئ أحدا. فقد سبق له حينما كان وزيرا للداخلية أن صوت ضد أوسلو الثاني (اتفاق طابا سنة 1995). لقد نجح نتانياهو في تأخير تطبيق أوسلو أما باراك فقد دفنه. وها هي صفحة من تاريخ المنطقة تطوى وتفتح اخرى قديمة. وفي الصفحة التي طويت رأينا نتانياهو يتردد ويعرقل ويعود إلى الوراء. وفسر ذلك أحد المفاوضين الفلسطينيين بأن ما يشغل الجانب الآخر هو الأمن. وأن الهاجس الأمني هو عند قادة إسرائيل وسواس يفسد رؤيتهم نحو أنفسهم ونحو العالم المحيط بهم. ثم رأينا باراك يقدم تصوره عن السلام وهو تصور قاصر لا يزيد عن لائحة مطالب وتمنيات الحالمين بإسرائيل المتفوقة وشبه دولة فلسطينية مرهونة.

إذ أنه من وراء هاجس الأمن أطلت بشراسة الأفكار القديمة عن إسرائيل الكبرى. وبين هذا وذاك ظلت مقاليد إسرائيل في أيدي ساسة عاجزين عن المضي بطلاقة وبكيفية حاسمة في مسيرة رأى فيها العالم بأسره أنها قد تؤدي إلى الممكن. وأول مظاهر ذلك العجز أن المجتمع الإسرائيلي فريسة تجاذب دائم بين منطق الدولة ومنطق المرجعية الدينية المتزمتة التي تعود بالنقاش إلى قرون خلت. مع فارق وهو أن المنتمين إلى كل الديانات في العالم يسعون إلى ضبط ساعاتهم مع التوقيت العالمي، في حين أن سدنة المرجعية الدينية في إسرائيل متصلبون في تصوراتهم، ويتحدثون عن أرض ميعاد، ويطرحون حقوقا تحدثت عنها كتبهم أمام حقوق تدخل في مجال القانون الدولي. ويطلبون من العالم أجمع ان يعتبر كلامهم مسلما به من باب البديهيات.

ففي المناقشة مع المسيرين الإسرائيليين مهما كانت مشاربهم تمتزج الجيوبوليتيك مع التيوبوليتيك. لا تكاد تقيم معهم قناة حوار على صعيد السياسة حتى ينقلون الموجة إلى صعيد الحق التوراتي. إن الديني والزمني مختلط عند ساسة إسرائيل وقادة الرأي فيها إلى حد افتقاد قواسم مشتركة وأسس منطقية. إنه نظام فكري متفرد لم يخضع للتكيف مع ما هو متعارف عليه عالميا.

قرأت هذه الأيام رواية جيدة للكاتب الإسرائيلي أموس عوز ترجمت إلى الإسبانية بعنوان «الصندوق الأسود»، من شخصياتها الرئيسية ليكودي متدين وجد خلاصه الشخصي في المشاركة بحمية في تهويد فلسطين كوسيلة للتقرب من الله.. يتعلق الأمر بمهاجر من الجزائر طبق الصهيونية على شاكلته بأن يبتز ماليا أحد الإسرائيليين المستقرين في أميركا، وينغمر في مضاربات عقارية لشراء قطع أرضية في الخليل ليقيم عليها مشاريع دينية. ويقول عن نفسه إنه رجل مسالم فهو إنما يدعو إلى حث العرب على مغادرة الأرض وأن يخرجو منها بكرامة وبدون ان يمسهم سوء (كذا). لأن الأرض في النهاية هي لإسرائيل. وما الضفة الغربية وغزة وقبلهما سيناء سوى أراض محررة لا يجوز دينيا التنازل عنها.

وهو ومسالم مثل شلومو بن عامي الذي قدم لنا تصوراته عن السلام في كتابه بالإسبانية «إسرائيل بين الحرب والسلام» الذي صدر منذ سنة في برشلونة. وهو يعرض فيه خرائط للمستقبل تتضمن على الخصوص مبادلة ترابية مع الفلسطينيين. وذلك لكي يتشكل تراب دولة هؤلاء وفق خريطة «إيرتز إسرائيل». ويقترح تضحيات ترابية تقوم مصر في سيناء لتدوير المساحات التي يمكن أن يتبلور فيها الحيز الجغرافي للدولة الفلسطينية القادمة. أي أنه يترك لخياله أن يسبح، على حساب دولة ذات سيادة هي مصر، ليسوي مشكلة محتملة تطرحها الخريطة المقترحة، من حيث التواصل بين أجزاء الدولة الفلسطينية القادمة التي يجب ألا يجاوز حيزها الترابي 70 أو 75% من الضفة الغربية. ومن جهة أخرى يجب أن تكون للدولة الفلسطينية سيادة محدودة هي أقرب إلى الوصاية، رغم أنه لاعتبارات مظهرية يمكن ان يكون مسموحا لها بالدخول إلى الأمم المتحدة. أما القدس فلا كلام. على الفلسطينيين أن يبحثوا لأنفسهم عن عاصمة في مكان يقع خارج المدار الحضري الحالي للمدينة التي ستزداد اتساعا. هذا هو كل السلام الذي يمكن أن يقترحه مثقف من المعتدلين لا يريد إلا السلام ما استطاع. وهو ضرب من السلام لا يمكن أن تتصور إسرائيل غيره. وبالتالي فإنها بعيدة جدا عن طرح جدي ليس لنقص المؤهلات الفكرية لقادتها، وليس لانعدام رجل فيهم يحتكم إلى المنطق، بل بسبب المعضلة التي تتمثل في اختلاط الجيوبوليتيك بالتيوبوليتيك الأمر الذي تنتج عنه عدة التباسات.

يحدث هذا في مجتمع يقال إن 80% من ساكنته هم لائكيون. ومراهنة على هؤلاء طرح باراك أفكارا في الصيف الماضي عن تزويد الدولة بدستور يفصل الدين عن الدولة. ويقطع على المدارس الدينية المعونات التي تتلقاها من الدولة. ويلغي الأسس التي تمنح المتفرغين للدين امتياز عدم الخدمة في الجيش. وإلى هذه الأغلبية اللائكية تنتمي النخبة المسيرة الخاضعة للأقلية المتشددة التي تسجن السياسة الإسرائيلية في «الأوهام» المؤسسة للصهيونية كما يقول غارودي. إن التجاذب بين التيوبوليتيك والجيوبوليتيك يخلق عدة التباسات ويؤدي إلى مخترعات من قبيل وجود سيادة على ما فوق باحة الحرم المقدسي وسيادة أخرى على ما تحت الأرض. وأشد منه تأثيرا في السياسات الإسرائيلية النظام الانتخابي في الدولة العبرية الذي ينتج خريطة سياسية مفتتة هي تعبير عن أزمة مستحكمة. فكل حكومات إسرائيل هي حكومات أزمة. والآليات التي تضبط الممارسة السياسية في إسرائيل تجعل كل اتفاق تبرمه الحكومة إنما هو أمر مؤقت. فبعد أن صادق الكنيسيت على أوسلو الأول، عاد ليناقش من جديد وليصوت على اتفاق طابا الذي هو تطبيق للأول. وإلى مدة قبيل أن يلغي باراك مبادرة الحل السلمي كان هناك تلويح بإجراء استفتاء على مسألة المستوطنات. بل إن إلغاء مبادرة السلام هو في حد ذاته فكرة لإعادة هيكلة سياسية، تهدف إلى إقامة حكومة وحدة وطنية بين العمل وليكود، قصد ضمان استمرار باراك في الحكم. وهذا المشروع السياسي بدوره مرتبط بحسابات لكل من شارون ونتانياهو وباراك. أي أن مصير قضية السلام مرهون بحسابات الخريطة السياسية في الكنيست وفي الشارع الإسرائيلي. وهما مجالان تستبد بهما حسابات لا يمكن التكهن بها.

وهذا الوضع لا ينتج إلا سلاما ملتبسا من النوع الذي يطرحه ساسة إسرائيل الذين يخاطبون بطروحاتهم ومقارباتهم ليس الشركاء الذين يمكن أن يبنى معهم السلام وليس المجتمع الدولي، بل أصواتا يراهن عليها السياسي الإسرائيلي لضمان البقاء في الحكم.