الأسباب الموجبة للاهتمام العالمي بسباق الرئاسة الأميركية

TT

عندما يتوجه الناخبون الأميركيون إلى صناديق الاقتراع غدا (الثلاثاء)، فإن المعيار الأساسي لاختيار الرئيس الجديد بالنسبة للغالبية هو الموقف تجاه القضايا الداخلية كما هو وارد في البرنامج الانتخابي المطروح للمرشحين. اما قضايا السياسة الخارجية فتعتبر معياراً رئيسياً لانتخاب الرئيس الجديد بالنسبة لاثنين في المائة فقط من الناخبين، وذلك حسب نتائج استطلاع للرأي اجري أخيراً. وبالنظر إلى حدة التنافس بين آل غور وجورج بوش الابن، مرشحي الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فان نسبة 2% ربما تكون عاملاً حاسماً في ترجيح كفة أي منهما.

اما المسألة المهمة فتكمن في مدى الإدراك الكافي للناخبين الأميركيين بمختلف جوانب وتفاصيل السياسات الخارجية للمرشحين بصورة تمكنهم من تحديد وجهة أصواتهم الانتخابية. كشفت المناظرات التلفزيونية التي أجريت بين كل من بوش وغور خلال المرحلة الأخيرة من الحملة الانتخابية عدم وجود سوى بضعة خلافات فقط بينهما في قضايا السياسة الخارجية. تجنب المرشحان توضيح موقف حاسم تجاه الكثير من هذه القضايا ولجأ كل منهما إلى استخدام الكليشيهات، إذ أكدا انهما سيعملان على الدفاع عن «المصالح الأميركية» من دون ان يحدد أي منهما هذه المصالح.

ظهر خلاف بين غور وبوش خلال المرحلة الأخيرة من الحملة بشأن الموقف من العالم الخارجي وعلى وجه التحديد حول ما يطلق عليه «البناء القومي». تشير هذه العبارة إلى الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في مساعدة الدول الناشئة في الظهور والوقوف على قدميها في غداة انتهاء النزاعات وعدم الاستقرار. مخترع اصطلاح «البناء القومي» هو جورج مارشال، وزير خارجية الولايات المتحدة خلال حقبة الرئيس الأميركي الراحل هاري ترومان، فقد نظم مارشال برنامجاً طموحاً لـ«البناء القومي» في أوروبا والشرق الأقصى في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية. ألمانيا الغربية واليابان من أبرز أمثلة الدول التي حلت الولايات المتحدة فيها محل الأنظمة المهزومة السابقة.

تواصلت سياسة «البناء القومي» خلال حقبة الخمسينات التي شهدت تورط الولايات المتحدة في الحرب الكورية وتمكنها في نهاية الأمر من السيطرة على النصف الجنوبي لشبه الجزيرة الكورية وطبقت عليها برنامج «البناء القومي» بنجاح. كما ورطت طموحات مماثلة الولايات المتحدة في حرب فيتنام أفرزت نزاعات أخرى في كل من كمبوديا ولاوس. غير ان الولايات المتحدة تخلت عن طموحات «البناء القومي» ابتداء من أواخر عقد الستينات خلال حقبة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون الذي تبنى نهجاً قائماً على أساس أقل واقعية تجاه السياسة العالمية اعتمد على تأسيس توازن جديد للقوى لمساعدة الولايات المتحدة في الحيلولة دون تحقيق الكتلة الشرقية السابقة لمكاسب جديدة في مناطق التنافس. اما النتيجة النهائية لسياسة نيكسون هذه فقد تلخصت في توسع هائل للنفوذ السوفياتي خصوصاً في ما يسمى بالعالم الثالث.

المثير في الأمر ان الرئيس الجمهوري الأميركي الأسبق رونالد ريجان، الذي أرسل القوات الأميركية إلى جزيرة جرينادا الصغيرة لإطاحة نظام مؤيد للتوجه الشيوعي والبدء في «بناء» دولة جديدة، خرق سياسة نيكسون في البداية.

تدخلت الولايات المتحدة في ما بعد في عدد من النزاعات كما حدث في العراق والصومال مع اختلاف الدرجة، غير ان تدخلها لم يكن في أي من الحالات بهدف جهود «البناء القومي».

أحيا الرئيس بيل كلينتون في منتصف حقبة التسعينات مفهوم «البناء القومي» تحت نفوذ ريتشارد هولبروك، الذي من المنتظر ان يصبح وزيراً لخارجية الولايات المتحدة في حالة فوز غور في انتخابات يوم الثلاثاء. كانت جزيرة هاييتي أول اختبار بالنسبة لكلينتون، الذي أرسل القوات الأميركية إلى الجزيرة لإطاحة النظام القائم وإعادة الرئيس المنتخب الذي أطاحه الجيش. اما الاختبار الثاني فقد كان في البوسنة، حيث أرسلت الولايات المتحدة قوات ضخمة إلى منطقة تقع خارج نطاق مصالحها. الفرق بين «البناء القومي» و«حفظ السلام» يتلخص في ان الأول يشتمل على التزامات سياسية وعسكرية على الولايات المتحدة لقاء السماح لها بالإدلاء برأيها، ان لم يكن يحديد الكلمة النهائية، في المسائل ذات الصلة بالسياسات الداخلية والخارجية في الدولة التي يطبق فيها برنامج «البناء القومي». اتخذ مفهوم «البناء القومي» دفعة جديدة عام 1997 بواسطة وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت المعروفة بحماستها تجاه بسط القوة الأميركية في كل مكان، كما اكتسب هذا المفهوم بعداً تنظيمياً بانشاء مجموعة جديدة من الدول الديمقراطية. فقد انعقد في وارسو مطلع العام الحالي مؤتمر شاركت فيه 134 دولة تعهدت بمحاربة مؤسسة الديمقراطية الشعبية في قارات العالم. وعند سؤالها عن أهم أهداف السياسة الخارجية الأميركية، أجابت اولبرايت بدون تردد: «انتصار الديمقراطية في العالم».

درجت الولايات المتحدة خلال حقبة الحرب الباردة على اتهام موسكو بمحاولة «تصدير» نموذجها إلى بقية دول العالم، اما الآن فان واشنطن التي تحاول ان تثبت للعالم ان صادرات الولايات المتحدة لا تقتصر فقط على الإعلام وماكدونالد ومادونا وانما تشتمل كذلك على اقتصاد السوق والديمقراطية التعددية. وطبقاً لأنصار «البناء القومي» فان عالم اليوم يضم ثلاث مجموعات من الدول الهشة حيث يجب على الولايات المتحدة ان تلعب دوراً رئيسياً بما في ذلك التدخل العسكري ان دعا الأمر. تشتمل المجموعة الأولى على عدد من الدول التي تعتبر بنية الدولة فيها اما منهارة تماماً أو ذات وجود رمزي فقط. ومن أمثلة هذه المجموعة سيراليون وليبيريا والصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية والكونغو برازافيل وأفغانستان. اما المجموعة الثانية، فتتكون من دول في طريقها إلى الانهيار مثل تاجيكستان والسودان والعراق وأنغولا وزيمبابوي. وتتكون المجموعة الثالثة من دول عديدة في مختلف قارات العالم، إذ تضم هذه المجموعة جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وعددا من دول أميركا الجنوبية خصوصاً كولومبيا وبيرو وهاييتي التي لا تزال الأوضاع فيها غير مستقرة بعد مرور ست سنوات على التدخل الأميركي. كما تضم قائمة هذه الدول يوغوسلافيا السابقة وعلى وجه الخصوص البوسنة والهرسك ومقدونيا وكوسوفو، إذ يلاحظ ان للولايات المتحدة وجودا عسكريا في غالبية هذه الجمهوريات.

تكمن المشكلة في عدم إمكانية اعتبار هذه المجموعات كونها شاملة لكل الدول، إذ ان هناك دولا أعضاء في الأمم المتحدة يمكن اعتبارها هشة لأسباب اقتصادية وسياسية. كما ان ثمة علامات استفهام حول دول أخرى قد يتسبب افتقارها إلى آليات مجربة للتغيير الاقتصادي والسياسي في انتشار العنف وعدم الاستقرار السياسي. يضاف إلى ذلك ان هناك حوالي 30 دولة في حالة توتر قد يؤدي إلى نزاع مع جيرانها.

يصر أنصار «البناء القومي» على ان للولايات المتحدة دورا يجب ان تلعبه وسط دول المجموعات الثلاث. يعتقد هؤلاء انه يجب على الولايات المتحدة استخدام قوتها الاقتصادية والعسكرية للمساعدة في بناء مؤسسات جديدة في إطار نظام تعددي. وفي المجموعة الثانية يرى أنصار «البناء القومي» ضرورة ان تحول الولايات المتحدة دون الانهيار المنتظم، فيما يرون ان دورها وسط دول المجموعة الثالثة يجب ان يتركز في تعزيز المؤسسات التي انشئت حديثاً أو استعادة مؤسسات وبنى الدولة. غير ان الواضح هو ان الولايات المتحدة لا تستطيع، حتى في حالة عملها مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، تنفيذ مشروعات «البناء القومي» في مناطق العالم المتعددة دعك عن نقل نموذجها الديمقراطي إلى مجتمعات متباينة مثل اوزبكستان وكوبا.

ليس ثمة شك ان الولايات المتحدة نجحت في هذا المشروع في اليابان وألمانيا وإيطاليا خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، غير ان السبب في ذلك النجاح يعزى إلى سيطرتها عسكرياً واقتصادياً في هذه الدول على مدى عدة سنوات. اما في حالة عدم السيطرة، فان الفشل هو النتيجة كما حدث في حالة هاييتي. من الواضح ان الولايات المتحدة قد تكسب أي حرب تخوضها مستقبلاً، كما حدث في حالة تحرير الكويت، غير ان النصر العسكري لا يعود بالضرورة إلى «البناء القومي»، كما تفهمه واشنطن. علاوة على ذلك، فان الوجود العسكري، مثلما في نموذج هاييتي ومثلما هو الحال الآن في البوسنة، لا يؤدي بالضرورة إلى إقامة مؤسسات ديمقراطية متينة في دول غير مهيأة لذلك.

مصلحة الجميع تقتضي ان تحدد الولايات المتحدة مصالحها وتدافع عنها في إطار القانون الدولي، حتى وان دعا الأمر لاستخدام القوة، من دون ان تعطي نفسها الحق في تحديد مصير الدول الأخرى. من الممكن للولايات المتحدة ان تؤيد وتشجع القوى التي تعمل من اجل التعددية في الكثير من مناطق العالم، لكن من الخطأ ان يوكل قادتها لأنفسهم مهمة «تصدير» نمط الحياة الأميركي للعالم أجمع. قراءة سريعة لتصريحات وتعليقات مرشحي الرئاسة توضح لنا ان غور سيتبنى في الغالب مفهوم «البناء القومي»، فيما ينظر إليه بوش كونه تبديدا لموارد الولايات المتحدة.