قصف غزة... والإمعان في الخطأ

TT

العدوان الاسرائيلي الذي تعرض له قطاع غزة بالأمس اعاد الى الأذهان صوراً من بيروت في مطلع الثمانينات. ورسخ عند كثيرين الاقتناع القائل بأن الطبع يغلب التطبع.

لقد استعرضت آلة الحرب الاسرائيلية عضلاتها على مدنيي غزة ومخيماتها، فقصفت وضربت وزمجرت وأضاءت ظلام الليل الهادئ برصاصها الخطاط ولهب قنابلها الحارقة والخارقة. لماذا كل هذا؟ للرد ـ كما تزعم ـ على اعتداء على حافلة ركاب تقل سكان احدى مستعمراتها في قطاع غزة.

السؤال الذي يتبادر الى الذهن في مثل هذه الظروف، هو: هل تظن الحكومة الاسرائيلية ان سياسة العصا الغليظة هذه ستفلح في الفت في عضد «الانتفاضة» الجديدة وزرع الشقاق في الشارع الفلسطيني؟ واستطراداً، يمكن التساؤل: إذا حصل وتوهم احد اركان حكومة ايهود باراك ان سياسة التركيع وفرض الاستسلام ستنجح، فما هي الاستراتيجية التي ستطبقها اسرائيل ـ الحريصة كما تزعم على «التعاون الاقليمي» ـ مع «طابور فلسطيني خامس» يزيد تعداده على الثلاثة ملايين مواطن؟ وبأي صفة تتوخى حكمه؟

إن حكومة باراك اليوم في مأزق له سببان مباشران; اولهما جبنها في وجه المعارضة الاسرائيلية عندما كان خيار الشجاعة وارداً، وثانيهما إصرارها على اتخاذ القرارات المتعلقة بموضوع السلام بأغلبية يهودية خالصة لا تعتمد على الصوت العربي داخل اسرائيل 1948. وبالتالي ضحّت ايضاً حتى بوجود حزب «ميرتس» اليساري في الائتلاف الحاكم إرضاءً للأجنحة المتشددة والحلفاء المتطرفين.

ولكن ما لم يستوعبه باراك حتى الآن، ان الاستقواء باليمين عبر صيغة «حكومة ائتلافية»، لا ينسف فقط مصداقية حكومته على مسرح مفاوضات السلام، بل يهز صورته داخلياً، ويقضي على كل اشكال الثقة في الفريق المقابل. وفعلاً عندما يقال ان تل ابيب تتحمل مسؤولية إشعال فتيل التفجر، فالقصد ان رهان باراك كان دائماً على التعامل الفوقي وإلغاء اية فرصة للتفاوض الجدي. والآن مع توسيع اطار التصعيد والقمع، اضحت حال باراك كمن يجد نفسه وسط الرمال المتحركة، حيث انه كلما تحرك... تورّط اكثر وغرق اكثر. وثمة جيل يتربي الآن في الاراضي الفلسطينية المحتلة فاقداً الثقة بالسلام المزعوم، ومتحرراً من عقدة الخوف من المواجهة. وعليه إذا كان مخططو السياسة الاسرائيلية على استعداد، ولو لبضع لحظات، للتفكير بآفاق المستقبل، لاكتشفوا ان اسلوب الاستعلاء والقمع ولغة الحديد والنار لا يولّد الا مزيداً من المرارة ويحرض على مزيد من التحدي. فهذا ما حدث في لبنان، وهذا ما كان وراء تكرار تجربة «الانتفاضة»، وهذا ما يحدث على مستوى الشارع المدني في كل الدول العربية، بما فيها مصر والاردن المرتبطان بمعاهدات سلام مع الدولة العبرية... ولكن ما العمل مع الطبع الذي يغلب التطبع... وكيف التفاهم مع «الجنرالات» عندما يحترفون السياسة؟!