هكذا تحدثت سهى

TT

يوم كانت سهى بشارة في معتقل الخيام كانت تحلم بأنها في بيتهم في بيروت، وحين افرج عنها، وصارت في العاصمة اللبنانية، صارت تصحو وهي تظن نفسها في المعتقل، أما قريتها دير الميماس فقد كانت كالاقمار تظهر وتغيب، وتصغر وتكبر حسب الحالة والمزاج، وطقوس النفس، وتحولاتها.

لقد ادركت سهى بشارة بعد نضال واعتقال وتجربة فخر وعذاب ان كل أنواع المقاومات تبدأ بالنفس، وها هي تختم كتابها المؤثر «مقاومة» بقولها:

«وكان علي ان أقاتل كل يوم وكل دقيقة واتماسك لئلا اخرج من هذا السجن الى السجن الآخر الرهيب والابدي، عنيت به مستشفى الامراض العصبية، وكان علي كذلك ان اسمع أصوات الرجال الصائحين ألماً، وأصوات النساء اللواتي يتوسلن، وان أرى هذه المرأة التي أخذ منها ابنها، وهذه الجدة التي تساق الى قاعة التعذيب، وان اشجع جارتي في الزنزانة حتى لا تواصل حك بقع الاكزيما التي اخذت تلتهم جلدها التهاما، وكان عليك انت ذاتك ألا تنهاري، وألا تكشفي عن أي شعور وإلا انتصر العدو..» وما قامت به سهى لم يذهب هدرا فقد ادركت في الساعات الطويلة للمصالحة مع النفس والعالم داخل المعتقل وخارجه، انه من أجل الغد وأطفاله، وان روح المقاومة التي تلبستها، ودفعتها لمحاولة اغتيال انطوان لحد كانت ضرورية حتى يستمتع الأطفال بصراخهم اللاهي وهم يستظلون الاشجار الباسقة في ربوع بلادها.

وكتاب سهى بشارة الصادر حديثا بترجمة عربية عن دار الساقي من الكتب الثمينة التي تبدأ بها بروح ونفسية، وتنهيها بأخرى، فهو من نوعية الكتب التي تحولك وتغسلك من الداخل لترى كم يهون ألمك أمام عذابات الآخرين.

والأجمل في كتاب «مقاومة» هو تلك الروح الساخرة التي لا توفر نفسها، فسهى بشارة تتحدث بروح خفيفة وشفافة عن طفولتها في دير الميماس، وعن ابتهاجاتها في عيد «مار ماما» وعن نضالها الساذج الاولي في معسكرات الكشافة ثم عن انخراطها في الحزب الشيوعي اللبناني الى ان التقت بمازن ثم احمد الذي ادخلها بناء على رغبتها الى شدق التنين.

وقد كان بإمكانها كما نفهم من كتابها ان تقتل انطوان لحد قبل شهور من محاولتها الفاشلة، فقد دخلت بيته وأصبحت مدربة رياضية لزوجته الجميلة الشابة «دلوعة الأشرفية» مينرفا لحد، وذات يوم كان قائد جيش لبنان الجنوبي امامها في صالة الجلوس يأكل وقد أدار لها ظهره، فتحسست مسدسها ـ آنذاك ـ لكن ثقافتها ردتها ومنعتها عن التنفيذ، فمن العيب ان تقتل انسانا وهو يأكل والاكثر عيبا ان تطلق عليه من الظهر.

ثم جاءت الفرصة وأطلقت عليه من الوجه وفشلت، اذ تم انقاذه لاحقا. لكن هذا لا يقلل من عملها ومقاومتها، وعمق تجربتها التي ترويها في هذا الكتاب ببلاغة ساحرة، فتجعلك تعيش رهبتها وحماسها أيام التدرب على العمليات الانتحارية وتعرفك على صديقاتها في المعتقل، الفلسطينية كفاح التي كانت تراسلها داخل السجن خلال شهور طويلة وكانت صداقتها من عوامل صمود سهى في المعتقل، ثم يأتي دور الحارسة عليا، والشيعية حنان التي كانت تغضب من جلاديها ومستجوبيها حين يرد على ألسنتهم اسم حسين نصر الله الأمين العام لحزب الله دون ان يقترن بلقب «السيد».

ولا تخجل المناضلة اللبنانية التي تكتب بصدق منقطع النظير ان تعترف بوجود انتحاريين وانتحاريات قاموا بعملياتهم وعملياتهن بعد خيبات عاطفية اردن التخلص من ذيولها وآلامها، ومن هذا الرعيل قريبة لها اسمها لولا عبود، كما انها تشير الى حالات عديدة من القتل الخطأ الذي يقوم به شيعة لبنانيون ثم تلصق التهم بالفلسطينيين، والى محققين لبنانيين عملوا مع العدو الاسرائيلي وكانوا يزعمون انهم من المسيحيين لكنهم كانوا مسلمين وبينهم لبناني تعرفه سهى بشارة وتعرف أهله وقريته.

إن كتاب سهى بشارة كالكحول، فهو يلسعك، ويؤلمك في البداية، ثم يذهب الألم مخلفا ذلك الشعور النظيف بالراحة والتطهير.