والثمن: كرسي!

TT

ـ ما هي نكتة اليوم؟

سئل النائب رؤوبين رفلين، رئيس كتلة الليكود (اليميني المعارض) في الكنيست الاسرائيلي، المعروف بأنه صاحب النكات السياسية الجديدة دائماً. فأجاب سائله من حزب العمل المنافس: نكتة اليوم ان باراك (رئيس الحكومة الاسرائيلية) صامد في الحكم.

ـ لكن هذه النكتة، سمعتها منك بالأمس.

ـ وستسمعها غداً وبعد غد أيضاً وستظل آخر نكتة حتى تستيقظوا في حزب العمل وترسلوه حيثما يستحق أمثاله.

ـ انت تذكرني بنكتة طازجة أخرى.

ـ وما هي؟

ـ ان نتنياهو (رئيس الحكومة السابق عن حزب الليكود) لم يقرر بعد ان يعود إلى الحياة السياسية.

وضحك النائبان، الليكودي والعمالي، مع ان الأمر غير مضحك ابداً وكلا الرجلين يعرفان أن حزبيهما منكوبان بهذين القائدين: باراك مستعد لاحراق روما حتى يحافظ على كرسيه في رئاسة الحكومة، ونتنياهو مستعد لبناء جسر عملاق من الجماجم، حتى يعود إلى السلطة ويسترجع ذلك الكرسي الغالي.

والتصعيد الأخير في الحرب التي نشهدها في الشهرين الأخيرين، تتخذ هذا الطابع الدموي التدميري، اولاً وقبل كل شيء، في سبيل ذلك الكرسي.

باراك، من جهته، بدأ معركته من أجل الكرسي المنشود منذ طفولته. كان زملاؤه يردون على السؤال التقليدي عن صنعة المستقبل: أريد ان اصبح طبيباً، محامياً، نجماً رياضياً، مغنياً، معلماً، طياراً.. وأما هو فيجيب: اريد ان اصبح رئيساً للحكومة. وعندما بلغ سن البلوغ، رأى ان اقصر الطرق لتحقيق مبتغاه هو في المسار العسكري. فلم يرفض القيام بأية مهمة، مهما بلغت خطورتها. واقترن اسمه بمئات العمليات العسكرية المغامرة، التي هددت حياته بالخطر، من اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة في بيروت إلى اغتيال أبو جهاد في تونس، ومن تخليص الرهائن في مطار عينتيبه وحتى تخطيط حرب لبنان. فحصد اكبر مقدار من الاوسمة والنياشين، اكثر من اي قائد عسكري اسرائيلي آخر.

وعندما شارف على خلع البزة العسكرية، لم ينضم إلى حزب العمل لدوافع آيديولوجية. بل جَسَّ نبض الحزبين الاكبر، الليكود والعمل. واختار الثاني بفضل السعر الذي دفعه اسحق رابين، وهو بكل بساطة: «ولاية العهد». فقد كان واضحاً انه بعد رابين، هناك حاجة في حزب العمل لقائد سياسي ذي رصيد عسكري مثله. فهكذا هي اسرائيل، دولة الجنرالات. لم يحسب احد حساب ان يرث رابين، صديقه اللدود شيمعون بيريس الذي تجاوز السبعين من العمر في حين لم يتوقع احد بالطبع ان يقتل رابين بالرصاص الاسرائيلي.

وشاء القدر ان يغفر الشعب لليمين الاسرائيلي جريمة قتل رابين، فيسقط بيريس ويعتلي العرش نتنياهو الليكودي.. فقط بعد ستة أشهر. فتشغر الساحة أمام باراك، مرشح التيار اليميني داخل حزب العمل، الذي وقف ضد اتفاقات اوسلو وشكك في القيادة الفلسطينية وصدق نياتها بالسلام في حينه، لدرجة اغضبت رابين.

وخلال حكم نتنياهو حرص باراك على حفظ مواقفه اليمينية في أذهان الناس. فالجمهور اليساري والمعتدل، والناخبون العرب، كلهم مضمونون في الجيب. ولن يمنحوا أصواتهم لمرشح الليكود نتنياهو. ولذا فقد ركز على تلك الشريحة من الجمهور الاسرائيلي، المتأرجحة ما بين اليمين واليسار، وهي القوة الحاسمة في كل انتخابات اسرائيلية، منذ عام 1977م، وتضم العسكريين الكبار القدامى والمتقاعدين وكبار المتمولين واصحاب المصالح وبعض شرائح الأكاديميين وفئات واسعة من المهاجرين اليهود الجدد.

وفاز باراك، ولم يظهر بذلك الثوب اليميني التقليدي. فقد وضع نصب عينيه هدف تحقيق سلام شامل مع العرب أجمعين، مفضلاً المسار السوري ـ اللبناني أولاً، ثم المسار الفلسطيني، واثقا من انه يستطيع اللعب على المسارين، بحيث يؤثر الواحد على الآخر. وأبدى استعداداً، حقيقياً ومخلصاً، لاعادة الغالبية الساحقة من الجولان المحتل لسورية والضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية لفلسطين، ووافق على دولة مستقلة. والخلاف بين ما هو مستعد لدفعه والمطالب العربية ليس كبيراً، كما يصوره بعض السياسيين. وانسحب من لبنان، كما وعد.

لقد فاجأ باراك بهذه المواقف اقرب المقربين منه. فلم يتوقع أحد منه ان يتخلّى بهذه السرعة عن الاراضي المحتلة التي اعتبرت في اسرائيل مقدسة. وكان أول رئيس حكومة في اسرائيل يطرح مثل هذه المواقف، لدرجة أن شيمعون بيريس ويوسي بيلين وليئا رابين وماي رامون، بدوا إلى يمينه فيها. بعضهم اعجب بجرأته وبعضهم انتقده على المبالغة في التنازلات.

ولماذا كل هذا؟

القناعة بأنه فقط باتفاقات سلام شاملة يضمن انتخابه رئيساً للحكومة مرة اخرى، وينقش اسمه بالذهب في تاريخ الدولة العبرية والعالم، ليس فقط مثل مؤسسها دافيد بن غوريون، بل مثل شارل ديغول وغيره من الشخصيات التاريخية.

كان باراك يريد فقط مساعدة عربية في هذه المعركة، تتمثل في التجاوب الفلسطيني والسوري مع اهدافه، بتقديم بعض التنازلات عن بعض الاراضي و«التساهل» في قضيتي القدس واللاجئين.

لكن هذه لم تأت. فلجأ إلى الثورة العلمانية، التي اراد ان يكسب بها %76 من المجتمع الاسرائيلي المعدودين على التيار العلماني.

ولم ينجح، لأن «الشعور بالعظمة» الذي يعتوره مزق حكومته وائتلافه وجعله يكسب الخصوم والاعداء كما يحدث للاعب القمار في ليلة حظ نادرة، وتلخبطت كل اوراقه وفشلت كل حساباته. وصار يعيش ليومه. وهذه عيشة قد تصلح للفقير، ولكن ليس لقائد سياسي أول. ودخل في التناقضات والتخبطات، كل يوم قرار وكل اسبوع سياسة.

وآخر مخططاته اليوم: اقامة حكومة طوارئ مرة أخرى، رغم فشله فيها قبل اسبوعين فقط. فهذه الوحيدة التي تضمن بقاءه في الحكم.

لكن حكومة كهذه لن تقوم، إلاّ اذا سار وراء الليكود في القمع الارهابي للانتفاضة. وهذا ما يفعله اليوم. فكلما زاد العنف وارتفع عدد الضحايا (الفلسطينيين بالأساس، على اعتبار انه مقابل كل 8 قتلى فلسطينيين يسقط قتيل اسرائيلي واحد)، شعر الاسرائيليون بحالة الطوارئ اكثر وشعروا بالحاجة إلى حكومة طوارئ اكثر وضغطوا على الليكود لينضم إليها أكثر وأكثر.

هكذا يخطط باراك. وما زال يأمل في مساندة ارئيل شارون، زعيم الليكود الحالي. فشارون، رغم انه يشعر ان باراك ضحك عليه خلال المفاوضات السابقة لاقامة حكومة كهذه، فان مصلحته تقضي بأن يدخل التحالف مع باراك. فقط بمثل هذا التحالف يحقق هدفه في البقاء في الحلبة السياسية. فإذا جرت الانتخابات اليوم، سيسقط شارون: إما ان يسقط في الانتخابات الداخلية في الليكود ويصبح بنيامين نتنياهو مرشحاً لليمين لرئاسة الحكومة، وإما أن يسقط في الانتخابات العامة امام باراك. والحل هو ان يكون قائماً بأعمال رئيس الحكومة، باراك، ووزيراً للمالية لمدة ثلاث سنوات، يعتزل بعدها الحياة السياسية (عمره اليوم 72 عاماً). ومشكلته فقط، الثقة المتصدعة مع باراك. وفي السياسة يمكن التغلب على عقبة كهذه.

ولكن نتنياهو يقف بالمرصاد، لكل من باراك وشارون. فهو يريد ان يدفع باراك إلى المزيد والمزيد من القمع الدموي للفلسطينيين، مهما كلف الثمن لدى الجانبين، ويقترح على الليكود ان يحافظ على دعمه للحكومة من الخارج. فما ان ينهي باراك مهمته، حتى تجرى انتخابات جديدة. فيخوضها مقابل باراك المنهك.

وديدن نتنياهو ودينه في هذا المخطط، مبنيان على المعادلة التالية: كلما قتل باراك ودمر اكثر لدى الفلسطينيين، جاء رد فعلهم أقسى ضد الاسرائيليين، وفي هذه الحالة يضرب عدة عصافير بحجر واحد: فأولاً يفقد باراك هيبته الدولية ولا يعود الغرب يسانده على النحو القائم اليوم، وثانياً: يزداد الغليان في الشارع الاسرائيلي على الضحايا فترتفع قوة اليمين وتتغلغل اكثر واكثر أفكار اليمين وتصبح مطالب نتنياهو بالمزيد من القوة والمزيد من القمع، مطالب جماهيرية. وثالثاً: سيخسر باراك، في هذه الحالة، أصوات الناخبين العرب في اسرائيل (فلسطينيي 48) وسيخسر اصوات الكثير من قوى السلام في اسرائيل.

.. وهكذا، يقدم كرسي الحكم إلى نتنياهو على طبق من الذهب. ولن يضيره ان يكون الذهب طلاء للجماجم، اياً كانت هويتها القومية، فهي ثمن هذا الكرسي اللعين.