الهدهد والشيخ حسن

TT

إذا صدقنا الشيخ فريد الدين العطار النيسابوري ـ وهو بالتصديق من أهل الجدارة ـ فإن الطيور الشرقية عرفت الديمقراطية قبل الانسان الشرقي، فكتابه البديع منطق الطير يقوم بالأساس على قرعة (صندوق اقتراع) تختار الطيور بموجبها الهدهد ليكون الحاكم والمرشد والدليل.

والنص الذي يحكي قصة الاقتراع طويل نسبياً لكن لا بأس من ايراد بعضه. وفي هذا البعض حكمة دفينة تشير إلى ان الترئيس يلزم الرعية بالطاعة لكن يفترض بالرئيس ان يكون صاحب رؤية ليساعدهم على قطع الطريق، فإن سقطت هذه الصفة لم تعد الطاعة واجبة، وهذا ما يجب ان تستنتجه ضمناً من شاعر يرمز اكثر مما يصرح، ولا يقول كل أفكاره علناً لانه بين قوم، عدم طاعة اولي الأمر عندهم من الأمور التي لا تقبل المناقشة.

يقول العطار عن قرعة الطيور:

«ـ وقال الجميع: يجب أن يكون لنا رائد في طريق البحث، يكون له علينا العقد والحل.

ـ ويكون مرشدنا في الطريق، لأنه لا يمكن قطع الطريق اعتماداً على الغرور.

ـ ولا بد لهذا الطريق من حاكم قوي، لعلنا نستطيع ان نجتاز ذلك البحر العميق.

ـ وسننفذ أوامر حاكمنا بأرواحنا، ولن نقطع الطريق إلا بحكمه وأمره.

ـ واقترعوا وكان اقتراعاً موفقاً واستقر اقتراعهم على الهدهد العاشق.

ـ فجعله الجميع مرشدهم، فإن أمرهم بذلوا أرواحهم.

ـ وتعهد الجميع على أن يكون هو رئيسهم، وأن يكون مرشدهم في الطريق وهاديهم.

ـ والحكم حكمه والأمر أمره ولن يبخل أحدهم عليه بالروح أو بالجسد. وعلى المريدين إطاعة جميع اوامر الشيخ طاعة عمياء وان يكون هو الحاكم بأمره وما على المريدين إلا الطاعة».

وطبعاً لم يسهب الشيخ فريد الدين في وصف الاقتراع وطريقته وشروطه، لكن مجرد النص عليه كمبدأ يكفي للتأكيد على ان العقلية الشرقية كانت تحترم ذلك التقليد رغم آفات الاستبداد الشرقي، وتحاول ان تطبقه حين تستطيع اليه سبيلاً.

والخلل في الاقتراع الشرقي سواء كان بيعة أو شورى أو ديمقراطية بلغة العصر الحديث انه يتحدث عن حقوق المنتخب رئيساً ووجوب طاعته في معظم الأحوال اكثر مما يتحدث عن حقوق الناخبين (الرعية) فكأن المقصود من العملية كلها اختيار القائد فحسب، اما نظام محاسبته، فمسألة اخرى لم يبحثها الذين اقترعوا للهدهد ولا الذين سيقترعون لاحقاً ودائماً لواحد من بني الإنسان.

ان موجبات طاعة الهدهد التي نراها مرموزة ومختصرة عند فريد الدين العطار في القرن السادس الهجري سنجدها مفصلة وباللغة ذاتها في أحدث كتاب عن الإسلام السياسي أصدره هذا الاسبوع الشيخ الدكتور حسن الترابي تحت عنوان «المصطلحات السياسية في الاسلام».

وان كنت لا تصدق، فتعال لنقرأ معاً ما جاء في الصفحة 72 من فصل العهد والعقد السياسي وهو ما قبل الأخير من كتاب الترابي.

يقول الشيخ حسن الترابي بعد حديث طويل عن تدهور نظام البيعة الاسلامي: «ومن وقع العهد الدستوري له بالانتخاب (الشورى) الغالب فعلى الرعية كافة له الطاعة، ولكل العاملين تحت سلطانه حسب وظائفهم تجب الطاعة بشروطها وآجالها المكتوبة، وتكون للمؤمنين فرعاً عن البيعة للّه طاعة لشرعه وحكمة بواجب الوفاء بالعقود والمواثيق ورجاء لجزائه».

ولا تسأل الشيخ حسن الترابي لماذا ركز على «شروط الطاعة، وآجالها المكتوبة» ونسي شروط العزل، فما هو إلا من غزية، وما هو إلا سليل فكر توفيقي يتجرأ على حقوق الناس ويثقلهم بالواجبات لكنه لا يمس أبداً حقوق الطاعة لأولي الأمر حتى وإن ظلموا، وافتروا، واستبدوا، فعذر السكوت في تلك الحالة واضح وجاهز، وهو خوف الفتنة المرتقبة، وكأن ما نحن فيه من ضياع وتمزق وهضم حقوق وحريات ليس هو الفتنة بعينها.

ان اطاعة الهدهد عند فريد الدين العطار مبررة منطقياً، فهو صاحب رؤية ومعرفة، لكن ماذا عن الفيلة من أصدقاء الشيخ حسن؟ وهل تجوز طاعتهم ومعظمهم لا يرى ما هو أبعد من أرنبة أنفه...؟