أهي غلطة!

TT

اكتشفت في سيارتي قبل بضعة ايام كاسيت اغنية لام كلثوم «أهي غلطة ومش ح تعود». استغربت، فلست من جامعي اغنياتها ولا املك هذه الكاسيت. تساءلت من الذي (او «التي»، فالتذكير حسب الغناء العربي يشمل التأنيث) ترك هذه الكاسيت سهوا وغلطا؟ ام يا ترى تركها قصدا وعمدا ليفهمني بأن ركوبه معي في سيارتي والتقاءه بي، كان غلطة ومش ح تعود؟

طالما آمنت وذكرت مرارا بأن الموسيقى تعطي خير دلالات على نفسية الشعوب وتفكيرها. فأخذت هذه الكاسيت الى البيت ولعبتها. وجدتها اغنية ممتعة حقا، وغنية بالفحوى والدلالة. كانت كالعادة محفوفة بالهريج والهتاف والصفير والتصفيق الذي طالما صاحب حفلات تلك المطربة الاسطورية. لفت نظري بصورة خاصة من ذلك، ان الجمهور كان يضج بأشد الهتاف عندما تردد كوكب الشرق «أهي غلطة». الظاهر، بل الواضح ان هذه العبارة كانت تصيب جرحا خاصا في قلوب مستمعيها تجعلهم يفقدون رشدهم حماسا واستحسانا كلما سمعوها. لماذا ذلك؟ لأنها تعبر عن كل حياتهم، عن كل حياتنا الفردية والاجتماعية والسياسية. كلها غلطة. سلسلة من الاغلاط. يشعر المواطن العربي في قرارة نفسه ان كل وجوده وحياته غلط في غلط.

غلطت اكثر شعوبنا في حصولها على استقلالها قبل اوانه. غلطنا في رفض قرار تقسيم فلسطين 1948. غلطنا في غلق مضيق شرم الشيخ. غلطنا في رفض شروط انسحاب اسرائيل 1967. غلطنا في العراق بثورة 14 تموز. غلطنا بجل ثوراتنا وانقلاباتنا وحساباتنا.

«أهي غلطة»، وتمضي ام كلثوم لتقول: «ومش ح تعود». لا هتاف من الجمهور. الكل في وجوم وسكوت. لا يصدقون كلماتها هذه. يعرفون انها ستعود. ستعود الاخطاء وسنظل نتقلب من غلطة الى غلطة.

شيء آخر وجدته في هذه الاغنية. ام كلثوم تتحدث عن الاسى ونفاد الصبر وما عانته من الغدر. لا تخلص من هذه الشكوى حتى تنطلق الكمنجات والطبلات وكل الالات تهلل في لحن سريع راقص كله مرح وفرح وكأن كل واحد من هؤلاء العازفين يتشفى ويشمت بما حل بهذه المرأة من المصائب. هي تئن وتتوجع وتعصر قلبها في صرخات آه! آه! وهم يرقصون. هذا شيء كثيرا ما يقززني في الغناء العربي المعاصر، هذا التناقض بين الكلمة والطبلة. يبدو ان الغناء العربي الاصيل لم يخلق للاوركسترا وانما للعزف المنفرد. لا ادري متى يتخلص الملحنون من هذه الازدواجية في تلحينهم. ولكن لماذا نطالبهم بذلك وما هم الا مرآة لمجتمعنا الغارق في الازدواجية؟

من ناحية اخرى يمكن تبرير هذا التناقض في الاغنية العربية بالاشارة الى النفسية العربية في تغيرها السريع من حال الى حال، من انجراف في الحب الى انجراف في المخانقة والخصام، ومن الخصام والعداء الى تحول سريع للشوق والاعتذار. واخيرا، فلعل الكمنجاتي والعواد والطبال يعرفون ان ما تقوله ام كلثوم لا يعني شيئا. مجرد كلام في كلام، نقوله ولا نعني شيئا منه. كما هو في السياسة كذا هو في الحب.