ديمقراطية البيرو.. عودة الطائر الغريب إلى موطنه

TT

مظهران ديمقراطيان من موقعين متطابقين في الفكر متباينين في التجربة والممارسة، الاول في الولايات المتحدة الاميركية حيث يحتل موقع هرم السلطنة الديمقراطية في العالم بكل اعتبارات الابوة في القوة والالهام والتبشير، بفعل ماكنة الدعاية والاعلام والترويج، وفرائض الموالاة، ثم تكشف وقائع العقدة الانتخابية التي بدأت في السابع من نوفمبر الماضي عن درجة الهوة بين ما حمله البالون الديمقراطي من حالة الابهار المصنوع، وبين النزعات الحزبية والذاتية الضيقة، البعيدة عن مصالح المجموع الاميركي، ولو يتيسر لهذا الانفلات الانتخابي مزيد من الوقت لأكل كثيرا من مظاهر الهيبة، وبرزت الصورة الحقيقية لتلك النزعات المصلحية التي تختفي خلف رؤساء الجمهوريات الاميركية، وكشفت القوى الحقيقية عن هويتها، وهي قوى الشركات الكبرى التي تبرمج نشاطاتها وفعالياتها تحت لافتتي الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ولأصبح ترتيب التجربة الديمقراطية الاميركية في درجات ثانوية من قائمة الديمقراطيات الغربية، وتلاشى الكثير من اضواء الابهار، وتقلصت حالة هوس المبشرين المحليين من بلدان العالم الثالث بالنموذج الاميركي، ولتمكن المفكرون والمثقفون في تلك البلدان، ومن بينها بلداننا العربية من اعادة قراءة التجارب الديمقراطية المتقدمة بعقل موضوعي منفتح لاستخلاص الدروس لصالح بناء التجارب المحلية الناشئة.

والمظهر الثاني يقع في عموم دول اميركا اللاتينية، كأنموذج للتجارب الفتية في خانة بلدان العالم الثالث، وفي منطقة اكثر احتكاكا بأميركا الشمالية، من حيث الجغرافية، ينبغي لها ان تكون اكثر تعبيرا عن تجربة السلطان الاكبر. حاولت تجربة (فوجي موري) في البيرو عام 1992، كما هي تجربة (هوجو شافيز) في فنزويلا عام 1999 اختراق مسار بنائها الديمقراطي التقليدي الذي رعته الولايات المتحدة الاميركية كبديل جديد لعهد الدكتاتوريات التي انجزت مهمات الوكالة للحرب الباردة في القارة اللاتينية في مواجهة اخطار المد اليساري الذي انتعش في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، وقايض حكامه المحليون تلك الخدمة الاستراتيجية بممارسة نهب الثروات وانتهاك حقوق الانسان، وكان المثل الابشع الدكتاتور (بونوشيه) في شيلي.

في البيرو حيث الساحة الاكثر تعبيرا عن الفقر والتخلف، والضلع الافقر المضاف الى مثلث المخدرات (كولومبيا وبوليفيا وبنما) المفتوح الى بوابة فنزويلا كمعبر تجاري مساند نحو شواطئ فلوريدا الاميركية، اضافة الى ازمة العصابات المسلحة بما تمتلكه من ارتباطات متشعبة بمافيا المخدرات بين الاميركيتين، وصلتها ببقايا التنظيمات السياسية اليسارية خاصة في كل من كولومبيا وبوليفيا، مما يجعلها في بعض الاحيان تتحكم بالشارع الامني، وتشكل ضغطا سياسيا على حاكم القصر الجمهوري في ليما، حيث تصبح معادلة الحل الديمقراطي المنجز للمواطن من اعقد المعادلات السياسية، يصبح الحاكم خلالها معرضا للسقوط في لعبة اصحاب المال، وهم دهاقنة المخدرات. وحين يحاول مواجهة هذا الخطر، والاعتماد على سياسة نظيفة تحقق الانجاز اليومي، فسيكون عليه ان يتسلح بقوة الاقتصاد الوطني لمساعدته على تجاوز الاختناقات السياسية، وان يشكل طاقما حكوميا متخلصا من آفة الفساد المرافقة لعموم الحكومات في بلدان العالم الثالث ولهذا اصبحت ازمة الديمقراطيات في اميركا اللاتينية تتشابه في مظاهرها، ولكن في (البيرو) كانت اكثر حدة بسبب انعدام الموارد الطبيعية وضعف الاقتصاد، مما جعل الجماهير البيروانية تعيش خيبة عميقة تجاه الاحزاب الديمقراطية. وفاز المهندس ذو الاصل الياباني (فوجي موري) وهو غير منتم لأي من الاحزاب التقليدية في لعبة الانتخابات عام 1992.

لقد اعتقد (فوجي) وهو غير المتمرس بلعبة السياسة، اضافة الى تأثره بأخلاقيات جذوره اليابانية ان مهمة بناء الاقتصاد البيرواني، يمكن ان تتم عن طريق تهشيم كارتل مافيا المخدرات والعصابات المسلحة، والاعتماد على المؤسسة العسكرية كظهير يحمي سلطته، وتحقيق انفتاح على المحيط الخارجي لمساعدة اقتصاد بلاده المنهار وخاصة لدى كل من الولايات المتحدة واليابان وقد استجابت تلك المؤسسة لعرضه مقابل رعايتها، وتوفير المكتسبات الذاتية لقيادتها، تحت شعورها بأن مناخ الانقلابات العسكرية لم يعد مسموحا به، خصوصا بعد ان ساد المناخ الديمقراطي في عموم القارة، وكان (مونتسينوس) الذي اصبح مسؤول المخابرات البروانية، هو احد المستشارين الرئيسيين له، والذي يشاع عنه بأنه سبق وان جند لصالح المخابرات الاميركية. وفتح (فوجي موري) معركة حامية ضد الجماعات المسلحة وادخل غالبية قادتها في السجون، وحاول محاورة الآخرين لنقلهم تدريجيا الى مسرح العمل السياسي.. لكنه في المقابل لم يتمكن من تحقيق موازنة رعاية المسؤولين العسكريين الآخرين، ومنحهم الثقة، وتحقيق مراقبة على نشاطاتهم واتصالاتهم التجارية، ومن بينها (تجارة المخدرات والسلاح) تاركا هذه المهمة لمسؤول مخابراته الذي استثمر موقعه ذلك لتحقيق شعبية بين اوساط القيادات العسكرية، التي استنكرت في ما بعد ما واجهه في ازمة سبتمبر الماضي في فضيحة رشوة احد اعضاء البرلمان الحالي في الحملة الانتخابية التي فاز فيها الرئيس (فوجي موري) للمرة الثالثة.. واستطاع العودة متخفيا الى البيرو بعد رفض طلب لجوئه السياسي في بنما.

لقد خذلت الولايات المتحدة (فوجي) عندما اعتذرت عن تقديم الدعم الاقتصادي له لكونه اعلن عن سياسة مستقلة شبيهة بسياسة (هوجو شافيز) في فنزويلا، كانت يمكن ان تخلق عدوى غير مسموح بها في اميركا اللاتينية، ولعل السياسة الاميركية لا تقدم مكافآت للنظم الديمقراطية مثلما يشاع حول دعمها للديمقراطيات، فالظروف الاستراتيجية الحالية لا تضع لبيرو موقعا متقدما لأمنها الوطني مثلما هي عليه الحال مع كولومبيا على الرغم من ان السياسة الفوجومورية كانت واضحة في تصديها لشبكة المخدرات، وظلت اميركا طوال السنوات الثماني الماضية تتمنى زوال حكمه عن طريق الاستبدال الديمقراطي بدعم بعض مجموعات المعارضة ذات الصلة بالولايات المتحدة، وزاد من عدم ارتياحها فوزه للمرة الثالثة، حيث ظهر (توليدو) زعيم حزب PERU POSIBLE كمنافس متصاعد لاسقاط (فوجي موري) بعد الفضيحة الانتخابية لمستشاره الامني. كما ان اعتبارات السياسة اليابانية الاقتصادية لا يمكن ان تعطي للصلة النَسَبية للرئيس (فوجي موري) امكانيات خارج حدود المنافع الاستثمارية التقليدية.. وهكذا وقع الرئيس البيرواني تحت ضغط اقتصاد ضعيف وحاجات اجتماعية متنامية، ونشاط متنام للمعارضة، وللجماعات المسلحة وشبكات المخابرات ورغبة اميركية للخلاص منه، واصبح وحيدا في الساحة، فكانت فضيحة (مونتسينوس) هي القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال.. فحاول اتخاذ اجراءات دستورية فأعلن استقالته ثم تراجع عنها في 2000/9/16 مكتفيا باجراء انتخابات في 28 يوليو من العام المقبل تحت رغبة اعضاء البرلمان لاعطاء فرصة زمنية للجولة الانتخابية المقبلة، فيما ضغط المعارض (توليدو) لتسليم السلطة لحكومة انتقالية تحت شعارات عدائية تصف حكمه بالدكتاتورية، علما بأن المؤسسات الدستورية والتشريعية والبرلمانية لم توجه نحوه أي لائحة اتهامية.. وكانت حسابات الرئيس (فوجي) هي الحفاظ على الامن السياسي في البلاد، وعدم الدخول في مغامرة تسليم السلطة للعساكر، والظهور بمظهر الامين للديمقراطية، فسلم السلطة للبرلمان الذي عين رئيسه (فالانتين بانجوا) كرئيس مؤقت للجمهورية لحين الانتخابات المبكرة والتي لم يقرر البرلمان موعدها النهائي لحد الآن.. وبذلك تمت حماية البلاد من فوضى فراغ السلطة.

اضطر الطائر الذي غرد لوحده العودة الى موطنه الاصلي اليابان، واعلان استقالته من هناك، مخلفا وراءه بلدا غارقا في ازماته.. لم تقدم له الديمقراطية الخبز مثلما تصورت الاجيال في بلدان الديمقراطيات الناشئة.. لأن الديمقراطية تكشف الاغطية عن الفساد لكنها لا تعالجه.. الديمقراطية تستخدم كجسر للخلاص من الازمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لكنها ليست الحقل الاخضر الذي تختفي على سطحه تلك الازمات.

اما الولايات المتحدة. فالشاهد أن البيرواني والاميركي يؤكدان ان ديمقراطيتها تبقى محكومة بمصالح الشركات الكبرى داخل الولايات المتحدة ذاتها وخارجها.. وعلى من يتدرب الآن على الديمقراطية ان يأخذ خلاصات التجارب لمصلحة بلده ايضا بعيدا عن الشعارات..

alsamarrai@ cwcom.net