لماذا الاهتمام بالانتخابات الأميركية؟

TT

أثارت انتخابات الرئاسة الأميركية الكثير من الآراء والأفكار، خاصة ذلك الصراع القانوني الذي خاضه المرشحان عن طريق المحامين والقضاة.

وعلى الرغم من استقرار الوضع الديمقراطي في الولايات المتحدة لفترة طويلة، وتهذيب الصراع على السلطة بنقله إلى صناديق الانتخاب من خلال قيود وشروط دستورية عديدة، فإن «السلطة» لم تتوقف عن أن تكون صاحبة البريق الأقوى في حياة الاجتماع البشري. ولهذا اعتبر الكثير من المعلقين الغربيين أن التجربة الأخيرة، بما سادها من جدل قانوني عنيف، علامة صحة وليست علامة اضمحلال. الأمر الذي يذكرنا نحن في العالم الثالث أن وهج السلطة مازال ملتهباً حتى في المجتمعات العريقة في الديمقراطية، وأن ذكرى الصراع الدموي لم تغب عن الأذهان. وقد راق لبعض المعلقين أن يتفاخر بأن الصراع على السلطة في أمريكا جرى في اطار المجادلات القانونية والاحتكام إلى القضاء وليس إلى الجيوش.

كان هناك حديث عن «اختطاف الانتخابات» أو التزييف أو قل التلاعب. ثم ظهرت عيوب النظام الانتخابي، وشكوك في تكنولوجيا الإحصاء، وجدل حول حياد الآلة وشبهة تحيز الانسان. ثم ذلك التقسيم بين عدد الأصوات الفردية وبين عدد النقاط المحسوبة لكل ولاية والذي يجعل العبرة بعدد نقاط الولايات. فمن المفارقات أن عدد الأصوات الفردية التي حصل عليها آل جور أزيد من التي حصل عليها بوش بحوالي ثلاثمائة ألف صوت، ومع ذلك فان بوش يتقدم على منافسه بعدد نقاط الولايات.

ثم تأتي مشكلة تمويل الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة بصفة خاصة وهي تسمح للقوى الاقتصادية الكبرى أن تمارس سلطة على الرئيس المقبل بسبب اسهاماتها الكبيرة في تلك الحملات. على أن الملاحظ أن هذه الشركات تموّل الطرفين غالباً ما لم يكن هناك فارق كبير بين برنامجي المرشحين.

أما الاعلام فلم يزل في حاجة الى معالجة قانونية ودستورية لضمان استقلاله، خاصة عندما يشتد الصراع في الحملات الانتخابية فالكثير من محطات البث التليفزيوني أو الاذاعي أو الصحف اليومية والأسبوعية تخضع لسيطرة فرد واحد أو عدد قليل من الملاك مما يجعل السياسة التي تحركها تخضع لارادة ملاك الصحيفة أو المحطة التليفزيونية، وقد عولج هذا النقص بأن قامت الأحزاب أو القوى السياسية بانشاء محطات تليفزيونية تدافع عن وجهة نظرها، وهو أمر أوشكت دول أوربية عديدة أن تتخلص منه وتجعل الأداة الاعلامية وظيفة اجتماعية مستقلة تتطلب الحياد والموضوعية وهو أمر لم يزل ضعيفاً إلى حد ما في الولايات المتحدة.

والواقع أن سلطات الرئىس الأمريكي، وإن كانت واسعة شكلياً ومقابلة لسلطة المجلس التشريعي مجتمعاً، إلا أنها في واقع الممارسة مقيدة إلى درجة كبيرة. فجهاز الدولة المليء بمكاتب كبار الموظفين وخبراء الادارة الحكومية، فضلاً عن المكاتب الاستشارية المتعددة ومراكز البحث التابعة للادارة وكلها تضع أمام الرئىس توقعاتها وآراءها بحيث لا يكون أمام الرئيس إلا اتخاذ قراره بناء عليها، ما لم يكن له موقف جاد مغاير وهو أمر بالغ الندرة. والملاحظ أن الولايات مستقلة في الكثير من القضايا على حساب الدولة الفيدرالية ومنذ انتهاء الحرب الباردة والميل إلى اضعاف السلطة الفيدرالية في ازدياد متوافقاً مع الميل العام لتقليص دور الدولة إلى أقصى الحدود الممكنة.

وبصرف النظر عن المشاكل التنظيمية والدستورية التي نبهت إليها عملية الانتخابات الأخيرة، يبقى النظام الأمريكي قادراً على العمل بكفاءة. فالأجهزة الفنية التي تساعد الرئىس ـ ومع الخبرة المتراكمة لعقود طويلة من السنين ـ تكتسب نوعاً من السلطة الراسخة، تستمدها من خبرة التعامل المباشر مع مشاكل الحياة اليومية.

وغالباً ما يكون تغيير خط التفكير لهذه الآلة الضخمة أمراً صعباً وخطيراً في نفس الوقت. وفي النهاية تبقى خيارات الرئيس محدودة، وتبقى السياسة الامريكية داخلياً ودولياً ثابتة ومستقرة إلى حد كبير، وهو الأمر الذي نشهده في السلوك السياسي للولايات المتحدة في عهود رئاسات مختلفة ومتداولة بين الجمهوريين والديمقراطيين.

ولا شك أن لهذا النظام مميزاته وعيوبه، وتغييره أو اصلاحه منوط بالشعب الأمريكي. ولكن اهتمام العالم بما يدور في الولايات المتحدة نابع من أن لهذه الدولة الكبرى تأثيراً كبيراً على مجمل السياسات في غالب الدول. على أن الأهم من كل ذلك أن المجتمع البشري يضع ثقله كله على المراكز المتقدمة في العالم، وبالنسبة للولايات المتحدة تعتبر هي في مركز القيادة الأول. ويصبح اصلاح هذا المركز مسؤولية تكاد تكون عامة حتى خارج الدولة. ولعل هذا ما يفسر اهتمام العالم بوقائع الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في الولايات المتحدة. والكثير من قوى الضغط في الداخل لها امتدادات إلى الخارج بشكل ما، وفي اطار حركة العولمة تصبح أمريكا مركزاً عالمياً وليست وطناً بالمفهوم القومي التقليدي وهي بحكم تكوينها المتنوع قابلة للحركة على مستوى العالم من دون قيود أو معوقات كثيرة.

حقاً إن التأثير الذي تمارسه الولايات المتحدة يبدو أقوى من تأثرها بالضغوط الخارجية الأخرى، إلا أن التحولات الجارية في العالم تشير إلى اتساع دائرة التأثر وأن السياسات الأمريكية، سواء في الداخل أو الخارج سيشترك في انتاجها جماع هذه العوامل.

وفي الوقت الذي تظهر فيه عقبات أمام الاتحاد الأوربي مثل العملة النقدية، أو وحدة الجيش والسياسات الخارجية أو وحدة اللغة. فان الولايات المتحدة بحكم ظروف تكوينها التاريخي، لا تعاني من هذه المشاكل وبالتالي يتسع دورها العالمي يوماً بعد آخر، ومازال أمام الاتحاد الأوربي وقت طويل ليصبح قوة كبرى جديدة ـ عالمية ـ مضافة ومركزاً عالمياً يتحقق فيه ظروف العولمة على النطاق الواسع.

والاهتمام العربي بالولايات المتحدة شيء طبيعي وعلى العكس من نداءات المقاطعة التي نسمعها كثيراً فإن الأولى من كل ذلك هو اصلاح المواقع العربية بأسرع وقت والدخول في علاقات تأثير وتأثر تساعد على تحسين الأوضاع في المنطقة، وعلى أن يكون للعرب «قول» داخل الفسيفساء الأمريكية المتشعبة الجذور ثقافياً وعرقياً واقتصادياً.

وكما أنه من الصعب نشوء حركة علمية وتكنولوجية متقدمة من دون أن نكون في قلب العالم، فكذلك الأمر في المجالات الأخرى ثقافية أو اقتصادية. إن مركز البحث العلمي ما لم يكن متصلا بجميع المراكز العلمية الأخرى لا يمكن أن ينجز شيئاً فطبيعة العلم العالمية فرضت نظمه الخاصة والتي تتواصل فيها الأبحاث من الشرق والغرب ساعة بساعة، تعمل وفق نظم تعليمية وتدريبية مستخرجة من الخبرات العالمية التاريخية وتكاد تكون واحدة في جميع أنحاء العالم.

الحق أن الشرق الأوسط ورث موقفاً من الدول الكبرى، معادياً ومقاوماً في الفترة الاستعمارية التي أساء الغرب فيها اساءة بالغة إلى المجتمعات العربية. فقد قام الاستعمار على فكرة الهيمنة واستعمال قوة السلاح لقهر المنطقة واستنزافها وإضعاف قواها حتى لا تكون قادرة على المقاومة . واليوم لم تزل الرغبة في التحرر من الصلات مع قوى الغرب قائمة ومازالت الشكوك والجراح غير ملتئمة. وقد يرى كثيرون ان علاقة الاستغلال تغيرت لكنها لم تزل قائمة وأن الاستنزاف بجوانبه المختلفة مازال يشكل السياسات الاستراتيجية للغرب المتقدم. وهذا أمر صحيح إلى حد كبير لكنه يقتضي مقاومة من نوع آخر. مقاومة تسعى إلى أن تكون المنطقة في قلب الحركة العالمية اقتصادياً وثقافياً لا أن تقاطع أو تعتزل. ومن أهم وسائل المقاومة المعرفة الصحيحة بتكوينات المجتمعات المتقدمة والتي تشكل مركز العالم المتحرك. وبدون تدخل مباشر للتأثير وللتغيير تصبح هذه المعرفة بغير جدوى. ولذلك فالاهتمام بتفاصيل ما يجري في الحياة السياسية والثقافية في الولايات المتحدة أو القارة الأوربية أو الآسيوية ليس من باب الرفاهية الثقافية بل ضرورة حياتية للتعايش مع التغييرات الكبرى التي تحدث في العالم اليوم.

لقد كان من تأثير الفترة الاستعمارية ظهور ميل المجتمعات التي عانت منها إلى الابتعاد والاستقلال في كل شيء. ولعل سياسات العالم الثالث كله رسمت على أساس الاستقلال، بمعنى عدم التعامل مع الغرب الاستعماري، ورفض ثقافاته ونظمه والانزواء إلى عالمنا القديم نعالجه ونعيد ترتيبه حتى يتيسر لنا أن نقوم بنهضة أو صحوة جديدة بعيدة عن مخاطر الثقافة الغربية وحضارتها التي تعاملت علينا بظاهر وباطن، وبالكثير من الخداع وارغام القوة.

اليوم لم يعد هذا ممكنا، وأي ابتعاد عن مجرى الحركة الجارية على مستوى العالم يعتبر موتاً محققاً. فتيار العلم لا يجري في قناة واحدة والاعتماد المتبادل بين الباحثين والعلماء في مختلف الدول هو أساس العلم وبدونه لن يتحقق شيء. وكذلك الأمر في مجالات الصناعة والتكنولوجيا ونظم التربية والنظم الاجتماعية. فالنظام الاجتماعي مثلاً ليس رأياً واعتقاداً بل وسيلة علمية لوضع حركة المجتمع وطموحات أفراده أو طبقاته في الأطر السليمة التي تساعد على استخدام كل القوى الكامنة الاستخدام الأمثل من حيث الرفاهية والسعادة.

قد يكون صحيحاً تفكيرنا منذ خمسين سنة مضت في قضية الأصالة والمعاصرة أو الوافد أو الموروث. هذا أمر قد انقضى وينبغي أن نكون في قلب المجتمع الدولي وفي قلب مراكزه الكبرى، مكونين جزءاً من الشبكة العالمية وليس هناك شرط لدخول هذه المجالات يتطلب انتزاعنا من موروثنا أو أصالتنا.