أميركا 2000: ماذا تعلمنا من «المهزلة»؟

TT

«.. لعلنا لن نستطيع بأي صورة من صور اليقين معرفة هوية الفائز الحقيقي... لكنني اعرف من هو الخاسر، انه نظرة المواطن الى القاضي على انه الحارس المحايد المؤتمن على حراسة القانون..».

انها كلمات ادانة صريحة صدرت عن جون بول ستيفنز احد قضاة المحكمة العليا الاتحادية الاميركية التي أهدت رئاسة الولايات المتحدة، بل والعالم كله، الى جورج ووكر بوش بفارق صوت واحد (5 مقابل 4)، وعلى أسس تقنية شكلية، لا علاقة لها بروح الديمقراطية ومبادئ فصل السلطات واستقلالية القضاء.

لقد صوّت قضاة الأمة ـ وقبلهم قضاة محكمة فلوريدا ـ المفترض انهم فوق الانحياز الحزبي مسدّدين فاتورة تعيينهم وتثبيتهم من قبل السلطتين التنفيذية والتشريعية. ففي المحكمة العليا الاتحادية صوّت القضاة المحافظون اليمينيون الخمسة الذين اختارهم رئيس جمهوري وزكّى تعيينهم كونجرس جمهوري الأغلبية بصرامة ضد قرار المحكمة العليا في ولاية فلوريدا باجراء فرز يدوي في مقاطعات مشكوك بصحة تصويتها. وفي المقابل صوّت القضاة الليبراليون المعتدلون الأربعة الذين عيّنوا بدعم من الحزب الديمقراطي اما مع حق اجراء الفرز اليدوي، او ضد خوض المحكمة العليا اصلاً في قضية من هذا النوع.

نزاهة القضاء وتجرّده، إذاً، شوّها وسقطا في أعين المواطن الاميركي...

ولكن ماذا قبل؟ وماذا بعد على الأقل بالنسبة للعرب وقضاياهم؟

قبل انطلاق حملة انتخابات عام 2000 الرئاسية رفض كثيرون ـ ومنهم كاتب السطور ـ ان يتخيلوا امكانية تكرار «مهزلة» انتخابات عام 1876 بين الجمهوري روذرفورد هايز والديمقراطي صامويل تيلدن.

يومذاك فاز تيلدن بأغلبية الاصوات الشعبية جامعاً 4.284.757 صوتاً مقابل 4.033.950 صوتاً لهايز. الا ان بعض ولايات الجنوب قدّمت نتائج ملتبسة لأصواتها مما أحال الأزمة الى الكونجرس ذي الأغلبية الجمهورية. وهكذا سمّى الكونجرس مفوضية للفصل بالقضية، وجاء تشكيل المفوضية المكوّنة من 15 عضواً بواقع 8 للجمهوريين و7 للديمقراطيين. وبالتالي حكمت لصالح هايز، الذي زكّت الأغلبية الجمهورية في الكونرنجرس على الاثر فوزه بالرئاسة بفارق صوت واحد 185 صوتاً مقابل 184 صوتاً.

كثيرون مثلي تصوّروا ان مهزلة كهذه لا يمكن ان تتكرر عام 2000 في مجتمع تربّى على الديمقراطية، وتعوّد على احترام آراء الآخرين.

كثيرون مثلي توّهموا ان اميركا المتقدمة علمياً وتكنولوجياً وإعلامياً لا يمكن ان تسقط بمثل تلك السقطة التي جاءت بعد سنوات معدودات من حرب اهلية مدمرة... رفض المرشح تيلدن ان يعيد البلاد اليها.

كثيرون ظنوا ان القضاء الاميركي حقاً فوق النزاعات الحزبية والتعصب الايديولوجي، وان الشعب الاميركي يعيش معنا في «قرية كونية» تتيح لقادته المحاضرة لشعوب العالم في حقوق الانسان واصول ممارسة الديمقراطية.

لكننا كلنا اخطأنا، وعلينا جميعاً ان نعيش ونتعايش مع هذا الواقع.

أصلاً المفاضلة بين المرشحين النهائيين كانت خياراً صعباً لملايين الناخبين الاميركيين. فنسبة عالية من المواطنين غير المسيّسين لم تفهم الفارق في البرنامجين السياسيين للمرشحين وحزبيهما رغم وضوح معالم الاختلاف. كذلك نسبة عالية من الناخبين احجمت عن التصويت لأي من المرشحين، فقررت اما الامتناع عن التصويت كلياً او الهروب بأصواتها الى المرشحين الآخرين وعلى رأسهم مرشح «حزب الخضر» رالف نادر.

كثرة من الاميركيين احبّت شخص جورج ووكر بوش لكنها ادركت انه سياسي ضحل، غرّ، عديم الخبرة في الشؤون الدولية، صنع كل نجاحاته بفضل علاقاته مع «المؤسسة» واستزلامه لكتل الضغط المرتبطة بها. وفي المقابل اعجبت نسبة ـ ربما كانت موازية ـ بعقلية آلبرت غور ... لكنها كرهت اسلوبه التخاطبي وافتعاله وافتقاره للكاريزما. وفي نهاية المطاف كانت خسارة غور ولايته تينيسي لوحدها كافية لخسارته... ولو فاز بأصواتها الـ11 لفاز بالرئاسة من دون الحاجة لأصوات ولاية فلوريدا.

وماذا بعد... عنّا نحن العرب؟

البروفسور ادوارد سعيد اجاب عن سؤال طرح عليه للاستفسار عن تصويته، فقال ما معناه «ان سجل غور سيئ جداً جداً» غير انه ـ اي سعيد ـ ليس جمهورياً ولا يمكن ان يصوّت لبوش، وعليه فقد اختار ان يصوّت لنادر!! والحقيقة ان غور ـ من منطلق عربي ـ لا يصلح حَكَماً نزيهاً في النزاع العربي ـ الاسرائيلي. فهو صهيوني حتى النخاع، نمت «صهيونيته» ونضجت على مقاعد الدراسة في جامعة هارفارد، حيث تتلمذ على ايدي مارتن برتز الناشر والأكاديمي الصهيوني الثري. ومارتن برتز هذا يدعم اسرائيل بلا تحفظ، ولا يقبل امكانية ان تكون اسرائيل على خطأ، ويرفض توجيه اي انتقاد لها مهما فعلت.

ومع ان غور كان سيكسب الصوت اليهودي في الانتخابات على اي حال، اولاً بفضل سجله المؤيد لاسرائيل وثانياً لأنه اكثر ليبرالية من بوش، فانه اوجد لنفسه مشكلة عويصة. ذلك ان اختياره السناتور اليهودي الارثوذكسي جو ليبرمان لم يحرمه من آلاف الاصوات العربية فحسب، بل حرمه ما هو اكثر منها من اصوات الناخبين المسيحيين... وايضاً العنصريين الذين لا يرضون بوجود يهودي داخل البيت الابيض... او على مقربة منه..

وصحيح ان اختيار ليبرمان اكد حقيقة ساطعة هي «صهيونية» غور، لكنه جاء وفق اعتبارات انتهازية بعض الشيء نابعة من رغبة غور حرمان الجمهوريين من ورقة فضائح بيل كلينتون النسائية، ذلك ان ليبرمان، الارثوذكسي المتديّن، كان اول سناتور ديمقراطي بارز ينتقد تصرفات كلينتون ويدينه علناً.

في المقابل، لا يُحسب بوش أساساً على التيار الصهيوني. بل على العكس يكره الناشطون اليهود والصهاينة مجموعة محيطة ببوش على رأسها جيمس بيكر، الذي يتهمونه بالقول في يوم من الايام «لماذا استرضاء اليهود؟.. انهم لا يصوّتون لنا في مطلق الاحوال..».

ولكن في السياسة... المشاعر الشخصية شيء والتخطيط والتنفيذ شيء آخر.

فالحزب الجمهوري يعتمد على الصوت المسيحي الاصولي اليميني الذي اذا كره اسرائيل قيراطاً واحداً فانه يكره العالم الاسلامي 24 قيراطاً.

ثم ان القيادة الجمهورية مرتبطة بمصالح مالية واقتصادية لا تستطيع ان تغفل ثقل مصالح اسرائيل وامتداداتها داخل الولايات المتحدة.

والنقطة الأخطر ان انصراف الصوت اليهودي في الانتخابات الاخيرة عن بوش سيشكل دافعاً قوياً عند اركان القيادة الجمهورية لاسترضائه ومحاولة استعادته، وهنا المشكلة الاكبر والأخطر عند الناشطين العرب والمسلمين. والأسوأ من هذا ان التغيير في اميركا سيتزامن تقريباً مع الانتخابات الاسرائيلية التي يمكن ـ بل يرجّح ان ـ تسفر عن فوز الليكود. وللتذكير فقط يحظى قادة الليكود بتأييد خاص من رموز اليمين المسيحي الانجيلي رداً على دعم الديمقراطيين العلني لحزب العمل الاسرائيلي.

ان فترة عصيبة تنتظرنا في اروقة السلطة الاميركية خلال الاشهر المقبلة، ويمكن ان يكون من حسناتها القليلة... اسقاطها مزيداً من الأوهام عن مدى فهمنا للظاهرة الاميركية.

نعم. نحن بحاجة لكي نعرف اكثر ونتكلم اقل ونتوقع ما هو اقل بكثير... عن السياسة كما تُمارس في الولايات المتحدة عام 2000، او ما تبقى منه.