القرار للملك والأردن لا يُقاد من المقعد الخلفي

TT

في زيارتي الأخيرة إلى الكويت، وهي بدعوة من الدكتور محمد الرميحي للمشاركة في المعرض الخامس والعشرين للكتاب، ولقد كانت تظاهرة ثقافية ناجحة بكل المقاييس والمعايير، حرصت على زيارة عدد من الصحف الكويتية، لأرى وأسأل وأُقارن ولألتقي بعض الزملاء والأصدقاء. وفي أحد هذه اللقاءات حاول أحد هؤلاء الزملاء التذاكي وسألني عمَّن يصنع القرار في الأردن وسألني آخر عما إذا كانت إزاحة الفريق سميح البطيخي، العضو حالياً في مجلس الأعيان، من موقعه السابق كمدير للمخابرات استجابة لرغبة عراقية، وفي إطار المفاوضات التي أجراها رئيس الوزراء علي أبو الراغب أثناء زيارته الأخيرة إلى بغداد.

ولقد اعتبرتُ أن السؤالين وجيهان، مع أنني رأيت أن طرحهما على هذا النحو دافعُه المناكفة وعلى خلفية أن الأردن أُعتبر إحدى ما سمي بدول «الضد»، التي أيدت العراق خلال كارثة غزو الكويت مع أن الأمر لم يكن كذلك، وهذا ما أكدته الأحداث والتطورات اللاحقة.

من الذي يصنع القرار في الأردن..؟

هذا السؤال لم يُطرح لا علينا ولا على غيرنا قبل رحيل الملك حسين، رحمه الله، وطرحُه بعد أقل من عامين بشهرين فقط على تسلم الملك عبد الله الثاني سلطاته الدستورية، يدل على أن هناك من لا يزال لم يقتنع، أو على وجه التحديد والدقة لا يريد أن يقتنع، بأن مسيرة الأردن داخلياً وخارجياً، إن لم تكن بالمستوى السابق نفسه، فهي أفضل بحكم التحدي واندفاعة الشباب والإصرار على النجاح وعوامل أخرى كثيرة.

هناك مؤسسات في الأردن، ربما تفتقر بعض الدول العربية لمثلها، وفي هذه المؤسسات يتم طبخ القرارات، المهمة والرئيسية والاستراتيجية، والثانوية والتلقائية، وهناك دستور يمارس الملك مهامه على أساسه ووفقاً لنصوصه وبنوده، لذلك فإنه يمكن تشبيه صناعة القرارات بالماء في الأواني المستطرقة، حيث يأخذ حجمه وهيئته وشكله حسب كل هذه الأواني التي يدخلها.

في الأردن مجلس نواب فاعل ومجلس أعيان يضم كل رؤساء الحكومات السابقين إلى جانب معظم الذين تبوأوا مراكز قيادية وأثبتوا كفاءة عالية، وهناك اللجان التابعة المتخصصة المتفرعة عن هذين المجلسين. وفي الأردن مجلس وزراء ليس مجرد «ديكور» للحكم بل يعطيه الدستور صلاحيات كبيرة. ثم هناك الهيئات المتخصصة والأجهزة المعنية والمستشارون والنقابات والأحزاب والصحافة النشطة التي تتابع كل صغيرة وكبيرة.

لذلك فإنه من الأفضل لو كان السؤال من الذي يدير هذه المؤسسات والأجهزة والتنظيمات ويراقب عملها ويوجهه، وليس من الذي يصنع القرار في الأردن...؟

إذا طرح السؤال بهذا الشكل وعلى هذا النحو، فإن الجواب فورياً وتلقائياً هو أن الملك عبد الله هو الذي يدير ويرعى هذا كله. ولقد أثبت منذ أن تسلم سلطاته الدستورية أنه يتابع حتى الشؤون اليومية الصغيرة ويتدخل بها وأن له رأيه المرجِّحُ إن بالنسبة لعملية السلام في الشرق الأوسط وسياسة الأردن الخارجية برمتها ومن الألف حتى الياء، وإن بالنسبة لرفع مستوى إحدى الجامعات ونقل موظف كبير من موقعه إلى موقع آخر.

لا يوجد في الأردن من يقود القاطرة أو السيارة من المقعد الخلفي، فالقائد هو الذي يجلس خلف المقود مباشرة. وحقيقة وبدون مواربة، فإن الملك عبد الله هو الذي يجلس خلف المقود مباشرة، منذ اليوم الأول الذي اعتلى فيه عرش البلاد، وإن كل ما قيل خلافا لهذه الحقيقة هو اجتهادات تنقصها الدقة أو مشاغبات مغرضة، والدليل على هذا أنه في نحو عامين تمت تغييرات شملت كل المواقع الرئيسية في الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية دون أن يشعر المواطن الأردني أن خللاً حدث لا في السياسة العامة ولا في أي من هذه المواقع.

عندما كان المغفور له الملك حسين في رحلة العلاج، التي استمرت زهاء ستة أشهر، كثرت التساؤلات والأسئلة في الأردن وفي الخارج عمّن بإمكانه أن يملأ فراغاً كبيراً سيتركه رجل بحجم وكفاءة الملك حسين استمر على رأس هرم المسؤولية سبعة وأربعين عاما كانت أعواما عاصفة شهدت أحداثاً هائلة وتغيّرات كثيرة في الخرائط السياسية، والجغرافية أيضاً، في المنطقة. وكان الأردن خلال هذه الأعوام في البؤرة إن بسبب موقعه الجغرافي وإن نتيجة ارتباطه بالقضية الفلسطينية.

كان الانطباع في الخارج، ولقد سمعنا هذا من الاصدقاء والأعداء على حد سواء، ان وضع الأردن سيتعرض لاهتزازات بل ولعواصف وزلازل بعد غياب الملك حسين وبخاصة أن عملية السلام في الشرق الأوسط لا تزال متعثّرة وأن القضية الفلسطينية التي هي لبّ الصراع في هذه المنطقة لم تُحلّ الحل النهائي بعد، وأنها لا تزال مفتوحة على شتى وأخطر وأسوأ الاحتمالات، وأيضاً لأن المسألة العراقية لا تزال عالقة وأن هناك في الوطن العربي كله ألغاماً ستتفجر لا محالة.

قصص كثيرة سمعناها عن خلافات داخل العائلة المالكة وصراعات محتدمة بين مراكز القوى. وساهمت الصحافة الإسرائيلية تحديداً في «فبركة» ونشر مثل هذه القصص التي صوّرت الأردن وكأنه يجثم فوق فوهة بركان، وذلك في حين أننا كنا ننشغل بالتواصل والاستمرارية، فانتقال الولاية بسلاسة كان مسألة تحصيل حاصل فهناك تقاليد وأعراف في العائلة المالكة تعتبر صمام الأمان وهناك مؤسسات راسخة دورها رئيسي وأساسي ولا يستطيع أي كان تجاوزها أو تحديها في أي كبيرة أو صغيرة.

كانت مهمة الرجال الذين رافقوا الملك حسين وعملوا إلى جانبه ومعه، توفير التواصل والاستمرارية بين العهد السابق والعهد الجديد، بين السلف والخلف، وكان عليهم تسليم الأمانة إلى صاحب الحق وينسحبوا من المشهد بهدوء لأن هذا العهد ليس نسخة كربونية عن العهد السابق بل هو استمرار له ويتكئ على اسمه وإيجابياته، وهذا ما حدث. وما حدث لم يكن لا حملات تصفيات على غرار التصفيات العربية ولا انقلابات عسكرية «نظيفة» ليس بالدبابات والمدافع إنما بالقفازات المخملية البيضاء.

سألتني إحدى الفضائيات بعد مغادرتي لموقع وزير الإعلام عما إذا كانت أسباب التغيير الحكومي الأخير، حيث حلت حكومة علي أبو الراغب محل حكومة عبد الرؤوف، أمنيّة. وكان جوابي أن تغيير رئيس الوزراء في الأردن بسهولة تغيير عريف صف في إحدى المدارس الابتدائية. وهذا ليس من قبيل التقليل من أهمية موقع رئيس الوزراء، بل من قبيل التأكيد على أن تغيير الحكومات المتعاقبة ليست له أي خلفيات أمنيّة على الإطلاق، وأن أسبابه البحث عن الأكثر ملاءمة لمرحلة جديدة تختلف عن المرحلة السابقة.

كل التغييرات التي شهدها الأردن في نحو العامين الأخيرين، تأتي في هذا الإطار ومن المنطقي أن يمر العهد الجديد، الذي لا يجوز أن يكون نسخة كربونية عن العهد الماضي بل استمرارية له في الأساسيات والأطر العامة، بما مر به، وأن يعجم الملك عبد الله عيدان كنانة دولته ويختبر رجالاتها ليختار الملائمين لمرحلته بتطلعاتها وآفاقها التي يجب وبالضرورة أن تكون مختلفة وأن لا تكون متطابقة تطابقاً كاملاً مع تطلعات وآفاق المرحلة السابقة.

في نحو السنتين الماضيتين شهدت المنطقة أحداثاً وتحولات في غاية الأهمية، على صعيد القضية الفلسطينية وعلى صعيد مسألة العراق وكان على الأردن أن يراجع سياساته السابقة وأن يتخذ مواقف تستجيب لهذه الأحداث والتطورات والتحولات وكان القرار النهائي في كل ذلك للملك عبد الله، ففي الأردن الآن وفي السابق، لا يوجد من يقود السيارة والقاطرة من المقعد الخلفي وما ينطبق على السياسة الخارجية ينطبق على السياسة الداخلية وبأدق التفاصيل وأصغر الشؤون.

لرئيس الوزراء، السابق واللاحق، رأيه ودوره، ولمجلس النواب دوره ورأيه أيضاً، كذلك الأمر بالنسبة لمجلس الأعيان ولكبار المسؤولين وقادة الأجهزة الحساسة والمؤثرة، لكن القرار النهائي في كل ما حصل وفي كل ما يحصل هو قرار الملك عبد الله فالدستور يعطيه حقوقاً ثبت بالدليل خلال زهاء عامين متلاحقين أنه يمارسها بكفاءة عالية تذكّر الأردنيين بكفاءة والده الذي عاش معهم وقادهم في أصعب الظروف وأحلكها على مدى نحو نصف قرن.

قد يكون هناك من يصنع القرار ومن يتخذه من الناحية الفعلية غير الرجل الأول في بعض الدول، لكن الرجل الأول في الأردن هو الذي يقود وهو صاحب القرار، فالقرار هو قرار الملك عبد الله الذي يعطيه الدستور هذا الحق والذي هو بالطبع لا يتخذ قراره إلا بعد أخذ رأي المؤسسات الدستورية وسماع آراء المستشارين وقادة الأجهزة المعنية.

وهنا واستطراداً فإن الإجابة عن سؤال ما إذا كانت إزاحة مدير المخابرات السابق عن موقعه كانت استجابة لرغبة عراقية، هي أن الفريق سميح البطيخي، العضو حالياً في مجلس الأعيان، لم يكن سائقاً من المقعد الخلفي على الإطلاق وهو كان يقود جهازاً هو عين وأذن الدولة الأردنية وصاحب دور رئيسي في حماية أمنها وبهذا وبحكم موقعه على رأس جهاز مهم في بلد يشكل الأمن أحد هواجسه الرئيسية، فإنه كان وباستمرار قريباً من الملك في المرحلة السابقة وفي المرحلة الحالية.

ولا الفريق البطيخي ولا أي مسؤول كبير آخر هو الذي يحدد سياسة الأردن لا تجاه العراق ولا تجاه أي دولة أخرى، ففي الأردن كما هو معروف محطات قيادية تشبه الدوائر المتباعدة الإطارات المتحدة المركز، والمركز وفقاً للدستور هو الملك، لذلك فكما كان الملك حسين هو صاحب القرارات الرئيسية فإن الملك عبد الله بدوره هو صاحب هذه القرارات في المرحلة الحالية.

لم تخضع علاقات الأردن بالعراق خلال العقد الأخير، وقبل ذلك، لمزاج أي مسؤول، فالظروف هي التي حددت هذه العلاقات، حيث كان هناك فتور في بعض الأحيان وتقارب في أحيان أخرى، والمعروف عموماً أن العلاقات بين الدول تشبه العلاقات بين الأفراد، إذْ انها وباستمرار بحاجة إلى رغبة وإرادة الطرف الآخر حتى تكون هذه العلاقات وطيدة بين الطرفين.

ليس الفريق سميح البطيخي هو المسؤول عن الفتور السابق في العلاقات بين الأردن والعراق، فهذه مسؤولية الحكومات المتلاحقة وهي مسؤولية العراق أيضاً، ولذلك فإن القول إن تنحيته عن موقعه كمدير للمخابرات تأتي في هذا الإطار هو نوع من الوهم وابتعاد كثير عن الحقيقة.

ومرة أخرى فإنه لا توجد في الأردن مراكز قوى ولا اقطاعيات سياسية حتى تكون العلاقات مع العراق وأي دولة أخرى خاضعة لمزاجية أي مسؤول، وما يجب أن يكون معروفا أن القرار النهائي بالنسبة لمثل هذه الأمور هو للملك وفقاً لنصوص الدستور بالطبع، ويقيناً لو أن عبد الرؤوف الروابدة بقي رئيساً للوزراء لفعل ما فعله رئيس الوزراء الحالي ولذهب إلى بغداد ولأدلى بالتصريحات نفسها وعقد الاتفاقيات النفطية وغير النفطية إياها.

الفريق سميح البطيخي خدم بكل شرف وقام بواجبه خير قيام عندما كان في موقعه السابق، لذلك فإن القول بأن تنحيته عن هذا الموقع جاءت تلبية لرغبة عراقية مجرد ليّ لعنق الحقيقة، والحقيقة أن الأردن لا يسمح بمثل هذه الأمور، وأن للتغييرات فيه أسسا تجعل المسؤول ينتقل من موقع إلى موقع آخر، لكنه يبقى أحد رجالات الدولة الذين لا استغناء عنهم إلى أن يتقاعد نهائياً ويتخلى عن الممارسة السياسية في المواقع الرسمية.