شرعية الخليفة التائه

TT

يثني المقريزي في الذهب المسبوك على السلطان الظاهر بيبرس لأمور كثيرة منها قيامه برد الخلافة لبني العباس، ومن الخبر الذي يذكره تظن انه ورطهم ولم يسد اليهم جميلا، فالخليفة الذي أعاد تنصيبه في يوم مشهود، اختفى من صفحات التاريخ في غمضة عين، وتحت سمع الظاهر وبصره.

وخلاصة الخبر تجدها منسقة بشكل افضل عند الجبرتي، وهي انه بعد انتهاك بغداد وتدميرها ورمي كتبها في دجلة الذي صار نهرا أسود من كثرة ما شرب من الحبر والافكار المسمومة، هرب احد اولاد الخلفاء الفارين من الموقعة الى عرب العراق واقام في بني مهارش، فلما ظلت الامة دون خليفة لمدة ثلاث سنوات وسمع الظاهر بسليل العباسيين، طلب حضوره، فأتاه الشاب العباسي وخرج بيبرس للقائه ومعه القضاة واهل الدولة، لكنه لم يسلمه الخلافة فورا انما طلب منه ان يثبت نسبه، فأثبته على يد قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز.

والسؤال هنا لماذا استقبله الظاهر واتعب نفسه قبل ان يثبت الشاب العباسي نسبه؟ والواضح انه كان على ثقة من النسب، لكنه اراد استكمال الاجراءات القانونية والشكليات امام الناس، حتى لا يقال انه اصطنع لقيطا ليتحكم به وسماه خليفة وحتى لو لم يكن النسب صحيحا فالشاب يفيده سياسيا في كل الاحوال.

ولأن بني العباس في مرحلتهم الثانية التي شهدت كل انواع المهانات والهزائم كانوا لا يشتقون القابهم إلا من النصر، فإن الاخ الخليفة التائه لقب نفسه بالمستنصر، وأخذ المنصب بجدية، فركب يوم الجمعة وعليه السواد، شعار اسرته، الى جامع القلعة، وخطب خطبة بليغة كانت الاخيرة، ثم اكمل معروفة فرسم بعمل خلعة خليفة الى السلطان بيبرس وكتب له تقليدا وقرئ بظاهر القاهرة.

ويبدو ان بيبرس التائق الى الشرعية بأي ثمن تكفيرا عن ذنبه باغتيال السلطان المظفر ونهب السلطنة منه، قد بالغ في التقاليد ليثبت شرعيته، فنظم حفل تتويج على الطريقة العربية ـ الاسلامية، حيث ألبسه الخليفة الخلعة، وسار بها في موكب عظيم الى باب النصر، والتقليد محمول فوق رأسه، والامراء مشاة بين يديه، وزينت القاهرة ابتهاجا بذلك الحدث الفريد.

والى هنا وانتهت مهمة الخليفة العباسي الاخير وليس الآخر، فقد اعطاه بيبرس مائة حصان وثلاثين بغلا وعين له كاتبا وجملة مماليك وسيره الى العراق ليستعيد ملك اجداده. ومن الافضل ان نقرأ نهاية هذا الخليفة التائه والمنكوب بلغة الجبرتي، حيث يقول انه لما عزم على التوجه الى العراق خرج معه السلطان، وشيعه الى دمشق وجهز معه من ملوك الشرق صاحب الموصل، وصاحب سنجار والجزيرة وغرم عليه وعليهم ـ اعطاهم ـ الف الف دينار وستين الف دينار، وسافروا حتى تجاوزوا هيت فلاقاهم التتار فحاربوهم ، فعدم الخليفة، ولم يعلم له خبر.

وبهذا الاختفاء السريع عن مسرح التاريخ تختفي الدولة العباسية عمليا، لكن المماليك يصرون على التمسك بها نظريا ويبحثون كل حين عن امير شارد او عباسي من أي درجة، فيخلعون عليه المال ليخلع عليهم الشرعية.

والظاهر ان العالم العربي يعاني على الدوام من أزمة شرعية، واذا كان سلاطين المماليك البحرية قد حلوا عقدتهم ببضعة عباسيين شاردين وتائهين فإن من جاء بعدهم لم يعد يجد حتى ذلك السند الشرعي الضعيف الذي يثبت حقه في الحكم، فعاشت المنطقة سلطويا بالحرام وتعاقب عليها المغتصبون وما زالت الى اليوم حائرة في تثبيت شكل محترم ومقبول من اشكال الشرعية السياسية.