الديمقراطية العربية في مفترق طرق

TT

مع الموجة الديمقراطية التي اخذت تجتاح العالم منذ انهيار المنظومة الشيوعية في اوربا الشرقية وفشل الانظمة الشمولية، لم يبق للعالم العربي غير ان يجاري هذه الموجة بسلسلة من التشريعات والاجراءات والخطوات التحريرية. ساعد على ذلك طبعاً انتقال الحكم من جيل إلى جيل شاب جديد في الكثير من الاقطار العربية، كما حدث في المملكة المغربية وسوريا والبحرين والاردن وتونس مثلاً.

اخذنا نعتاد على ما تطالعنا به الصحافة ووسائل الاعلام من تطورات تكاد تصبح يومية وروتينية في هذه المسيرة من التغيرات المتواترة بما يعيد إلى اذهاننا كلمات هارولد مكملان الخالدة عند زيارته لأفريقيا: «هناك ريح تغيير». كان من آخر هبوبها الانتخابات الرئاسية التي جرت في السودان في الاسبوع الماضي. قاطعها الكثيرون وشارك فيها الكثيرون ايضاً. ابدى المعارضون شكوكهم في نزاهتها وشرعيتها ومصداقيتها. ولكنها كانت خطوة إلى الإمام. فلم يشهد السودان أي انتخابات منذ الانقلاب العسكري الذي اسقط حكومة الصادق المهدي. اتسمت الانتخابات الاخيرة بسمة نادرة في البلاد العربية وهي وجود اكثر من مرشح لرئاسة الجمهورية. كانوا في الواقع خمسة، البشير وجعفر النميري ود. مالك حسين ود. السموأل حسين عثمان منصور ومحمود جحا. وجرت الانتخابات بعد حوارات طويلة بين السلطة والقيادات الوطنية اسفرت عن عودة الصادق المهدي إلى الخرطوم، وبعد عقد الاجتماعات الحزبية واطلاق سراح بعض المعتقلين.

ما ان تسلم بشار الاسد الحكم في سوريا حتى وجدناه يسرع إلى تحرير الكثير من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية كالسماح للاحزاب باصدار صحفها الخاصة والافراج عن 600 معتقل سياسي تلتهم وجبات اخرى من المعتقلين اللبنانيين. هناك الآن حيز اكبر من الحرية في التعامل مع المعلومات والمناقشة.

اقيمت في سائر دول الخليج مجالس شورى دحضت مخاوف النقاد وشكوكهم بعد ان اثبتت جدواها ومصداقيتها في محاسبة الوزارات ومؤسسات الدولة والوقوف في وجه الكثير من تشريعاتها وخططها. في عمان جرت انتخابات للمجلس شاركت فيها المرأة لأول مرة، فيما تسعى نساء الكويت للحصول على حقوقهن في الانتخاب والترشيح. ومن الجدير بالملاحظة ان هذه المعركة النسوية تجري الآن في سوح القضاء وبالوسائل القانونية والقضائية، مما يعتبر اهم بوابة للحياة الديمقراطية. كل ذلك بينما اصبح المجلس منصة رائعة لمناقشة الحكومة ومحاسبتها والسعي لسحب الثقة عن وزرائها. في البحرين، ما ان تسلم الأمير حمد بن عيسى آل خليفة الحكم في مارس (آذار) عام 1999 حتى بادر الى اطلاق سراح 300 من السجناء والمعتقلين بمن فيهم الشيخ عبد الأمير الجمري. وفي سبتمبر (ايلول) الماضي بادر الأمير الشاب الى اضافة اربع نساء واثنين من غير المسملين (يهودي ومسيحي) الى مجلس الشورى. وفي خطاب سمو الأمير الأخير، كشف عن النية لاقامة مجلس نيابي ينتخب مباشرة من الشعب جاء ذلك في خطاب موشى بكلمات «التطوير والتحديث والتجديد».

في مهد الديمقراطية البرلمانية العربية، مصر، مني الحزب الحاكم بخسائر كبيرة أمام احزاب المعارضة بعد انتخابات عامة جرت تحت اشراف السلطة القضائية. وفي المغرب، بادر الناخبون الى استثمار القانون الانتخابي الجديد في الادلاء بأصواتهم لمرشحيهم ضمن حملة انتخابية تمتعت بقدر كبير من الحرية والشرعية.

وراء كل هذه التطورات، ظهرت جمعيات لحقوق الانسان تمثل معظم البلدان العربية وتلعب دوراً غير قليل في الحد من التجاوزات التقليدية والكشف عن أي خروقات تعسفية. وبعد سنين طويلة من الكبت والقمع والحد من حرية المناقشة والنقد، اخذ الجمهور العربي يمسك انفاسه عجباً امام بعض المناقشات والندوات والمقابلات الصحافية والتلفزيونية الحية التي راحت تجري بحيث تتضمن الكثير من الكشف والمصارحة والتحدي والاعتراف بالذنب والتقصير، بل والشتائم والتجريح احياناً. حل كل ذلك محل المديح والتملق والمداهنة والتزلف التقليدي.

هذه هي رياح التغيير، ولكنها ككل الرياح قد تنذر بالزوابع. تصبح الحكومات السلطوية والدكتاتورية التي اعتادت على الحكم بالشدة، أضعف ما تكون عندما تبدأ بتحرير سياساتها وتعاملها مع شعبها. انها قصة العفريت المحبوس في القنينة عندما تفتحها. فما ان يجد الشعب المكبوت لسنين او قرون نفسه حراً حتى يجن جنونه ويتعفرت على السلطة، أي سلطة كانت. هذا هو الظرف التقليدي للثورات والانقلابات. هكذا حدثت الثورة الفرنسية بعد ان استدعى الملك الجمعية الوطنية وأهاب بنوابها مناقشة احوال البلاد. وهكذا حدثت الثورة البلشفية بعد ان أقيم في البلاد نظام برلماني ديمقراطي.

هذا لا يعني بالطبع تأجيل الديمقراطية أو الرجوع عن اصلاحاتها. المهم ان ندرك اخطار التجربة. ويضع هذا على الجانبين، السلطة والمعارضة أو الجمهور، واجب الصبر والحكمة. على السلطة ان لا تسرع في اصلاحاتها وتحررها بدون دراسة الموقف ملياً. خطوة بعد خطوة. لا تخطو خطوة جديدة الا بعد ان تتأكد من رسوخ الخطوة السابقة ومرورها بسلام.

ما يقال عن السلطة يقال عن المعارضة. لا بديل للصبر والحكمة. قد يؤدي أي تطرف في المطالبة والتوقعات إلى وقوع البلاد في التسيب واللامسؤولية واخيراً الفوضى وعدم الاستقرار، وآخراً الرجوع إلى اول المسيرة، أي الوقوع ثانية في اسر دكتاتورية اعنف واشد. هكذا ظهر نابليون في فرنسا وهتلر في المانيا وكرمويل في بريطانيا وفرانكو في اسبانيا.

هناك خطأ شائع على نطاق عالمي، وهو الاعتقاد بأن كل ما يحتاجه المجتمع هو مجلس نيابي وانتخابات حرة. هذا ما تتصوره المعارضة في البحرين. الحياة البرلمانية ليست هي الأول والآخر. تجاربها لم تكن مشجعة تماماً في العالم الثالث، بل ولا في العالم الأول إلى حد ما. ابدى معظم المنظرين في الديمقراطية، اعتباراً من سقراط وافلاطون إلى ماكس فيبر، شكوكهم في قدرة الجمهور على اعطاء اصواتهم وآرائهم بصورة مفيدة. رأينا في عالمنا العربي كيف يصوت الناخبون اتوماتيكياً لرؤسائهم التقليديين، شيخ العشيرة، المالك الاقطاعي، المدير صاحب النفوذ، الثري ورجل الاعمال الذي يشتري اصواتهم ويعطي وظائف لأولادهم، ابن العوائل المتنفذة، وهكذا. حتى المثقفون يعطون اصواتهم للساسة الديماجوجيين والانتهازيين، وهو اخطر في رأيي. من ناحية اخرى وصلت شؤون الدول المعاصرة قدراً من التعقيد والتشابك يعجز عن ادراكه كبار الخبراء والمختصين. فما الذي يستطيع الناخب الامي ان يفهم منها؟

حتى الدول الغربية المتطورة اخذت تعي مشاكل الحياة البرلمانية وتفتش عن أي دواء لمعالجتها. انظروا إلى مهزلة الانتخابات الاميركية، وكيف اصبحت الاصوات رهن الشركات والثروات واللوبيات. ما يتفوق به الغرب علينا هو ليس الانتخابات وانما الشفافيات. وهذا ما نحتاجه حقاً. حرية تداول المعلومات والمناقشات، حرية الرأي والتفكير والتعبير لمجتمع مدني، فبذلك تكتشف العيوب وتطرح المحاسن والمساوئ وتعالج العلل والمشاكل، سريعاً وقبل ان تتفاقم. الانتخابات والمجالس تؤدي غرضها كمعين ومنصة للشفافية. انها وسيلة اعلامية اكثر مما هي آلية للحكم. وينبغي ألا نخلط بين الشيئين ونتذكر دائماً القول اللاتيني : «لم تبن روما في يوم واحد»، ولا البرلمان البريطاني الذي استغرق سبعة قرون من التطوير والاصلاح والتجربة والخطأ.