بعد 500 عام من اكتشافها.. البرازيل قوة إقليمية كبرى

TT

الاحتفال في البرازيل هذا العام بمرور خمسمائة عام على اكتشافها لم يكن ليجيء في وقت أفضل، إذ لم يحدث أن توافرت للبرازيل في كل تاريخها الحديث كل هذه العوامل التي تؤهلها لتحتل المكانة الدولية المهمة التي تنعم بها اليوم. فانتهاء فترة الحكم العسكري الديكتاتوري لاثنين وعشرين عاما، وابتداء من التسعينات خاصة مع تولي فرناندو كاردوسو رئاسة البرازيل عام 1994، بدأت سياسة ـ داخلية وخارجية اقتصادية وسياسية ـ استهدفت البرازيل بها تدعيم سياستها الاقتصادية القائمة على سيادة آليات السوق الحر، ومكانتها في القارة اللاتينية وعلى المسرح الدولي.

ومع كون كاردوسو واحدا من أكبر المتخصصين في العالم في النظرية الشيوعية التي قام بتدريسها في جامعتي سان باولو وباريس، فهو من أكبر المؤيدين لإعطاء القيادة للقطاع العام وتحريره من كل القيود التي تعوقه عن الانطلاق. ففي مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ـ يقول ـ فليس هناك أي بديل حقيقي عن النظام الرأسمالي للإنتاج. وقبل تولي الرئاسة كان وزيرا للخارجية وبالتالي تمكن من استشراف المكانة الدولية التي يمكن أن تكون للبرازيل بكل طاقاتها غير المحدودة، ثم تولى وزارة الخزانة فكان مهندس الإصلاح الاقتصادي، الذي مهد لأكبر عملية خصخصة في العالم، وأكبر عملية تنمية في التاريخ الاقتصادي للبرازيل.

في وقت يشبه البعض فيه الولايات المتحدة اليوم بما كانت عليه أوروبا من قرن مضى عندما بدأت مكانتها في الانحسار أمام المدّ الأميركي، حيث بدأت الآن عدة قوى عالمية أخرى تنافس الولايات المتحدة في مكانتها الحالية. في هذا السياق يشار إلى التجمع الأوروبي ـ خاصة إذا اكتملت له سياسة خارجية موحدة ـ ثم هناك الصين وروسيا واليابان والهند، كذلك البرازيل، وهي المقصودة في هذا السياق. ان واحدة من ملامح المكانة الجديدة للبرازيل ورمزا لها التحدث عن البرازيل كممثلة لأميركا اللاتينية في النقاش الدائر حول توسيع مجلس الأمن.

والواقع، ان البرازيل هي أكبر دول القارة بمقدار نصف القارة تقريبا (%47.3 من جملة مساحة القارة) فهي عملاق أميركا اللاتينية، في حين تحتل المساحة الخامسة في العالم بعد الاتحاد الروسي وكندا والصين والولايات المتحدة. اما كقوة اقتصادية فهي الثامنة في العالم. ان اتساع سوقها الداخلي (165 مليون نسمة) ووفرة المواد الأولية، ومنها خام الحديد والنيكل والفوسفات واليورانيوم والبترول وقدرة كهربائية ضخمة وطاقة زراعية لا تحدها حدود، يجعل منها قوة ديناميكية ليس لها نظير في كثير من الدول. كذلك فوجود %62 من شعبها في شريحة الأقل من 29 عاما يجعل منها أمة فتية مليئة بالحيوية. كل هذه العوامل أهلتها لتلقي أكبر شريحة من رأس المال الأجنبي في العالم بعد الصين. أما عن إمكانياتها الصناعية والتكنولوجية، فقد تكفي الإشارة إلى قيام البحرية البرازيلية هذا العام ببناء أول غواصة ذرية، فتصبح بذلك سادس دولة في العالم في هذا المضمار.

كذلك فالبرازيل هي الشريك الأكبر في الميركوسور Marcosur ـ السوق المشتركة لأميركا الجنوبية ـ التي تضم الأرجنتين والأوروجواي والباراجواي. لذلك فهي ترى هذه السوق هي مجالها الحيوي وقمة أولوياتها. والبرازيل ليست الأولى بين متساويين، فهي فإن أنكرت ذلك درءا للحساسيات فهي صاحبة الصوت الأعلى والكلمة المسموعة في المحافل الدولية أكثر من غيرها من جيرانها. ويتركز اهتمامها في الوقت الحاضر بتوثيق علاقات الميركوسور مع تشيلي وبوليفيا لانضمامهما، والتوصل إلى روابط وثيقة مع «مجموعة الأنديز»، ثم التوصل إلى اتفاق تجارة حرة بين الميركوسور وجنوب افريقيا. وقد تلاحظ أن الجهة المعنية بشؤون الميركوسور في البرازيل هي وزارة الخارجية ـ أكفأ وزارة خارجية في القارة وواحدة من أهمها في العالم ـ في حين هي وزارة الاقتصاد المسؤولة عن الميركوسور في الأرجنتين.

وفي المجالات السياسية الدولية، تهتم البرازيل بإبراز مسؤولياتها الدولية المتزايدة والتمسك بها، وتقوية الاتجاه العالمي نحو الديمقراطية والقيم الغربية، وهو ما حدث مرات داخل «مجموعة ريو» مثلا عندما شعرت باحتمال ظهور حكم عسكري في الباراجواي، فعملت على ادخال نص جديد في الاتفاقية المنشئة للميركوسور ـ اتفاقية اسنسيون. يشترط توافر حكم ديمقراطي لاستمرار العضوية في هذه السوق المشتركة. كذلك فانعقاد أول مؤتمر لدول أميركا اللاتينية لوحدها ـ من دون مشاركة الولايات المتحدة كما يحدث في المؤتمرات الأميركية، ومن دون اسبانيا والبرتغال كما يحدث في المؤتمرات الايبروأميركية ـ كان انعقاده في «ريو» في منتصف هذا العام جزءا من استراتيجية طويلة الأمد للرئيس البرازيلي ليجعل من البرازيل الزعيم الطبيعي للقارة، هذه القارة التي بدأت تستعيد ثقتها بنفسها وتسودها الأنظمة الديمقراطية.

ومن الخطوات المهمة التي توشك البرازيل على اتخاذها لإنهاء عزلتها اللغوية عن بقية دول القارة، هي ادخال تعليم اللغة الاسبانية كلغة إلزامية في المرحلة الثانوية كافة ـ بجانب البرتغالية بالطبع ـ وهي خطوة تاريخية مهمة تقوي من نفوذ البرازيل في القارة وحسن أداء الميركوسور. ويستفيد من هذا التغيير حوالي 40 مليون طالب ثانوي، وهي مرحلة أولى سيليها تعميم الاسبانية من المرحلة الابتدائية.

إن البرازيل تحرص وتعمل على إقامة علاقات قوية مع الولايات المتحدة والابتعاد عن المواقف التصادمية معها، لكن ذلك لا يمنعها من اتباع سياسة خارجية مستقلة خاصة في قضايا القارة. فقد عارضت بشدة مشروعا للسلام لكولومبيا شارك في دعمه ماديا التجمع الأوروبي واليابان ودول أخرى بسبب أنه يتضمن وجود أو زيادة وجود القوات العسكرية الأميركية في كولومبيا، لمعارضة البرازيل الدائمة وجود أي قوات أجنبية من خارج القارة اللاتينية. لكن ما يصور سياسة البرازيل بصورة أوضح هو موقفها من كوبا، حيث أعادت البرازيل روابطها مع كوبا منذ 1986 قبل أغلبية دول القارة، لا بسبب احداث دولية أو تغيرات داخلية في كوبا، إنما تمشيا مع سياستها الخارجية المستقلة. فتم عدد كبير من اتفاقيات التعاون بينهما، كما أن الزيارات الرسمية بينهما هي أكثرها مع أي دولة أخرى في القارة. وهذا ما سماه الرئيس كاردوسو العلاقة الناضجة مع الولايات المتحدة التي تسمح لهم بأن يعارضوا بكل وضوح سياسة الحصار الاقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة على كوبا. والتقدير أنه إذا حدث ـ كفرض نظري صرف ـ وكانت هناك محاولة حقيقية للتقريب بين الولايات المتحدة وكوبا، فلن يكون هناك من هو أقدر على القيام بهذه الوساطة من البرازيل لرصيدها لدى الطرفين.

التحدي الأكبر لا شك أن البرازيل قد تمكنت خلال عقد واحد من تحقيق إنجاز اقتصادي ضخم اختبر اختبارات شديدة أثناء أزمة المكسيك عام 1994، والأزمة الآسيوية في 1997، ثم أزمة روسيا عام 1998، ومع ذلك ينقصها أمر مهم بل حيوي وهو توافر عدالة اجتماعية. فما زالت تعتبر واحدة من أقل دول العالم في المساواة والعدالة الاجتماعية ومن أكثرها تركيزا للثروة. فالمساواة مختلة بين المقاطعات البرازيلية مع بعضها البعض، داخل المجتمع الذي يصل عدد من يعيشون من دون مياه نظيفة أو مرافق صحية حوالي 60 مليونا.

وإذا كانت الطبقة الغنية في المكسيك تحصيل على 14 مرة من إيراد الطبقة الفقيرة فالحال في البرازيل يصل إلى 26 مرة. إن الطبقة الثرية البرازيلية التي تكون %10 من المجتمع تحصل على %54 من كل ثروة المجتمع. كذلك فقد انتشرت حركة المطالبة بالإصلاح الزراعي، إذ أن أقل من %1 من الشعب من كبار ملاك الأراضي الزراعية يمتلك حوالي %40 من الأراضي كافة، في حين أن الفقراء ونسبتهم حوالي %53 يمتلكون أقل من %3. ومع ذلك فهذه المشكلة التي ترجع بجذورها إلى فترة الاستعمار الأولى للبلاد ومنح المستوطنين البرتغاليين الجدد مساحات شاسعة لاعتماد العمل الزراعي على سخرة العبيد، تجد محاولات عديدة لتخفيفها واقتراحات وحوارا كبيرا بين النقابات والأحزاب والكنيسة، بما في ذلك حكومة الرئيس كاردوسو الذي أعلن أن معالجة مشكلة الشريحة الكبيرة الفقيرة هي الهدف الأول لبرنامجه الوطني.

وقد عبر كاردوسو عن موقفه لمساعدة الطبقات الفقيرة بأنه ليس نابعا عن أسباب أخلاقية فقط، إنما لقناعته أن المجتمع لا يمكن أن يعيش في استقرار بينما يوجد هذا العدد من ملايين المهمشين. ويشبه هؤلاء بالرمال التي تتسرب إلى آلة المجتمع فتعطلها أو توقفها، ومن هنا ضرورة وضع برامج كبرى لضمهم إلى التيار العام في المجتمع. كذلك فهو يعتقد أنه في عالم ما بعد الحرب الباردة، فدولة كالبرازيل لن يكون كل همها مجرد قوة عسكرية أو اعتبارات استراتيجية، إنما لا بد لأي مجتمع متوازن من قدرة على خلق عمالة وتوفير الحد الأدنى لأكبر قدر من هذه الشريحة. بل ان معيار نجاح الدولة لم يعد في كمية انتاجها من السلع والخدمات في ذاتها إنما بما يحصل عليه المواطن العادي من خدمات اجتماعية.

لكن ذلك بالطبع ليس بالأمر السهل، فهو ليس مرهونا فقط بوجود اقتصاد قوي، إنما بجهد حقيقي من جانب الحكومة المركزية وتعاون والتزام الحكومات المحلية، وهذا لا يتحقق دائما لأسباب حزبية. كذلك الالتفات الى هذا الداء الوبيل الذي ينهش امكانيات الدول النامية وهو الفساد وهو غالباً صورة لدولة ترى انها فوق المجتمع، ومجتمع ـ او جزء منه مميز ـ يريد ان يعيش بعيداً عن الدولة وقوانينها التي تحكمه. لكن هناك شواهد ودلائل على ازدياد اهتمام الرأي العام السياسي بالبرازيل بهذه المشكلة والمطالبة بزيادة قدرة تصميم الدولة على تنفيذ القوانين لا مجرد سنها وتنفيذها باقتدار ونزاهة. وقد نشر مؤخراً ان مجلس الشيوخ البرازيلي قد جرد احد اعضائه من حصانته البرلمانية وطرده وقدم بالفعل الى المحاكمة لتورطه في قضية فساد. وعلقت الصحف البرازيلية ان هذا الموقف يعتبر الأول من نوعه منذ 174 عاماً. ولعلها روح جديدة بدأت تدب في البرازيل فتكون قد انتقلت من جهادها الأصغر الى جهادها الأكبر الأهم.