الموازنة السعودية: ملامح ومؤشرات

TT

انشغلت الأوساط الاقتصادية باعلان الموازنة السعودية للعام المقبل، وهو انشغال مبرر كون الموازنة تعكس توجهات أكبر الاقتصادات العربية وأحد اللاعبين الرئيسيين في سوق النفط العالمية. واشتملت الموازنة على خمسة ملامح أساسية تستحق المتابعة والرصد.

أولها حدوث توازن بين الايرادات والمنصرفات في حدود 512 مليار ريال، واصدار ميزانية متوازنة ظل هدفا مطلوبا لأكثر من 71 عاما، ومنذ بداية واستمرار الاضطراب في السوق النفطية لأكثر من عقد ونصف من الزمان.

أما الملمح الثاني فهو احداث 72 ألف وظيفة جديدة وذلك في مؤشر واضح على انتهاء فترة التقشف التي شهدتها معظم سنوات العقد الماضي، حيث كان تقليص الانفاق العام متضمنا تجميد انشاء وظائف جديدة أحد أبرز ملامح الجهد المبذول للتواؤم مع تراجع أسعار وكميات النفط المنتج. وتحقيق توازن في الميزانية وانشاء وظائف جديدة يعتبران من أهداف خطة التنمية الخمسية السابعة التي أعلنت في آب (أغسطس) الماضي ويستمر العمل بها حتى عام 2005، فقد توقعت الخطة أن يصل العجز في الميزانية الى صفر بنهاية سنوات الخطة وأن يتم انشاء 823 وظيفة جديدة خلال هذه الفترة، اضافة الى 664 وظيفة يتم توفرها من خلال عملية السعودة. وعليه فإن هذين التطورين يشكلان منطلقا جيدا لتطبيق خطة التنمية الجديدة، وهذا هو الملمح الثالث.

على ان التطور الأكثر اثارة يتمثل في الاعلان عن حجم الدين الداخلي بصورة رسمية ولأول مرة. ففي تصريحات صحافية للدكتور ابراهيم العساف وزير المالية والاقتصاد الوطني أوضح ان حجم هذا الدين وصل الى 600 مليار ريال، أي ما يقل قليلا عن الناتج المحلي الاجمالي الذي قالت الميزانية انه بلغ 816 مليارا لهذا العام. وهذا الاعلان يمثل خطوة مهمة في تقديري على طريق التعامل مع هذه القضية الحساسة ذات الابعاد السياسية والاقتصادية المتداخلة. وكنت قد كتبت مقالا في نيسان (أبريل) الماضي متناولا موضوع الدين، ومشيرا الى ان الانتعاش الذي بدأت تشهده السوق النفطية يؤذن بتحقيق فائض في الميزانية، الأمر الذي يوفر فرصة لمعالجة أمر الدين الداخلي المتفاقم.

تصريحات الوزير تعطي الانطباع بأن التعامل مع هذا الدين أصبح من المواضيع ذات الأولوية، خاصة انه قد تم تخصيص مبلغ 33 مليار ريال يقسم ما بين مقابلة الالتزامات مثل تسديد مستحقات المزارعين والمقاولين والموردين، الأمر الذي يعني مسعى لتجميد سقف الدين وعدم زيادته من ناحية، كما سيتم توجيه قسم نحو بعض المؤسسات الدائنة مثل البنوك والمؤسسات شبه الحكومية مثل صندوق معاشات التقاعد والتأمينات الاجتماعية أو البنوك التجارية، وهو ما يعني من ناحية أخرى العمل على خفض حجم الدين.

وحبذا لو اتسعت دائرة الشفافية التي تعامل بها الوزير مع موضوع الدين، حتى يدخل في صلب عملية الاصلاح المالي والاقتصادي الجارية التي تضم أطرافا عديدة. فالملاحظ ان هذا الموضوع لم يتم التعرض اليه بصورة واضحة في خطة التنمية الخمسية، التي تناولت موضوع العجز في الموازنة وحددت له هدف الوصول الى صفر بنهاية سنوات الخطة.

ولا يحتاج الأمر الى صدور خطة خمسية جديدة لتناوله. فخطط التنمية في النهاية مؤشرات وخطوط عريضة للتحرك، وفي المؤسسات التي أقيمت حديثا مثل المجلس الاقتصادي الأعلى المنبر الملائم للتوجيه بأيلاء أمر الدين العام ما يستحقه في اطار حزمة متكاملة من السياسات تضع في اعتبارها تذبذب أوضاع السوق النفطية، والتزامات الدولة بمعدلات معينة من الانفاق لا بد من تلبيتها حتى وان لجأت الى الاقتراض مرة أخرى، وكل ذلك في اطار تنويع القاعدة الاقتصادية وتفعيل دور القطاع الخاص كمولد للثروة وموفر لفرص العمل. على ان هذا يتطلب وضوحا أكبر خاصة في جانب تحديد سقف للدين العام لا يتجاوزه واطار زمني لخفض المعدل الحالي العالي تدريجيا الى مستويات مقبولة.

الملمح الخامس والأخير ما كشفت عنه أرقام الميزانية ان القطاع الخاص سجل نسبة نمو بلغت 31.3 في المائة، وهي نسبة تقل عما استهدفته خطة التنمية السابعة التي توقعت أن تبلغ نسبة النمو ما يزيد قليلا عن خمسة في المائة. وحددت الخطة هدف نمو حقيقي للاقتصاد يبلغ 61.3 في المائة في المتوسط، علما بأن متوسط معدل النمو خلال السنوات الخمس الماضية كان يقل قليلا عن اثنين في المائة. وهدف النمو الكلي للاقتصاد يتسق مع النمو السكاني الذي يزيد قليلا عن 3 في المائة، لذا لا بد من المحافظة على هذا الهدف وتحقيقه لضمان عدم تدهور المستوى المعيشي للسكان.

ومع ان معدل نمو القطاع الخاص أقل مما افترضته خطة التنمية، الا ان النمو في القطاع النفطي من ناحيتي الكميات والأسعار الذي تجاوز 93 في المائة عوض عن انخفاض نمو القطاع غير النفطي، لكن هذا هو مربط الفرس بالنسبة لبرامج الاصلاح التي تسعى الى تقليل تأثير سوق النفط على الأداء الاقتصادي العام. ومن الأهداف الموضوعة أن ترتفع مساهمة القطاع غير النفطي في الناتج المحلي الاجمالي من 4.86 في المائة حاليا الى 6.17 في المائة بصورة تدريجية.

ونسبة للتركيبة الخاصة للاقتصاد السعودي، فمن المتوقع أن يلعب القطاع الصناعي خاصة ميدان البتروكيماويات والتعدين، دورا أكبر بسبب الميزة النسبية التي يتمتع بها هذا القطاع لاستناده الى العامل النفطي.

يضاف الى ذلك التأثير الذي يتوقع أن يحدث نتيجة للسياسات والاجراءات التي اتخذت على مدى العام ونصف العام اللذين مضيا على تأسيس المجلس الأعلى للبترول والمعادن، والمجلس الاقتصادي الأعلى، صدور قانون الاستثمار الأجنبي واقامة الهيئة العامة للاستثمار الى جانب السير خطوات على طريق فتح قطاع الغاز للشركات النفطية الأجنبية.

وبعد اللقاءات الأولية وتحديد اطار من خلال اللجنة الوزارية تمت لقاءات مكثفة من ممثلي الشركات الأجنبية حيث تم تحديد بعض الفرص الاستثمارية في مجال الغاز. وتم مؤخرا توقيع خطابات نوايا مع نحو خمس شركات أمريكية وأوروبية بعضها منفرد وبعضها مشترك، الأمر الذي يفتح المجال أمام الخطوة التالية التي سيشهدها مطلع العام المقبل عندما يسمح للشركات التي وقعت على خطابات النوايا المشاركة في غرفة البيانات، وهو ما يدفع بأمر المشاركة الى الجوانب التفصيلية ومن ثم تقترب من حالة وضع مقترحاتها الاستثمارية موضع التنفيذ. والاستثمار في ميدان الغاز، يعني ضخا أكبر لرؤوس الأموال وأهم من هذا اضافة لطاقة يحتاجها أي توسع في الميدان الصناعي، وهو ما يعني في العائد النهائي فرصا أفضل للقطاع الخاص لتحقيق معدلات نمو مرتفعة.

وعليه فكلما تسارع ايقاع هذه المجهودات، تحسنت فرص تنويع القاعدة الاقتصادية وأتاحة الفرصة أمام القطاع الخاص، وبالتالي التعويض عن انخفاض نسبة نمو القطاع الخاص في أولى سنوات الخطة. وهنا يتوقع أن يلعب المجلس الاقتصادي الأعلى والهيئة العامة للاستثمار دورا أكبر في تذليل الصعوبات وتيسير انطلاق العمليات الاستثمارية.