قمة مجلس التعاون وإدارة بوش العائدة

TT

كانت قمم مجلس التعاون تنعقد في الماضي مثل اجتماع العائلات في الأعياد الكبرى، فلا قضايا خلافية مطروحة ولا مشاكل تستحق الذكر ولا شيء غير قابل للحل، فقط يلتقي المجتمعون من أجل تأكيد المؤكد وتجديد سبل الود والتعالي على احتمالات النزاع واسباب الخلاف، ولم يكن يصل الى جدول الاعمال أي موضوع مثير للجدل. فكل ما هو موضوع انقسام كان يحل في اللقاءات الجانبية، وعلى الطريقة الخليجية، أي بالتسابق الى التنازل عن حصة ما، وليس العكس.

كانت مثل هذه الطريقة، بالنسبة الى البعض، تقليدية وفولكلورية، فكيف يمكن ان نحل كل شيء بقبلة على الخشم، وكيف يمكن ان نحيل كل القضايا على تحكيم الكبار وحكمة الحكماء، وأين نحن من العصر والقوانين والحداثة. لكن الحقيقة ان ديبلوماسية الخشم والمصالحة والتسابق الى التنازل وابقاء كل الخلافات خارج جدول الأعمال، صانت وحدة المجلس وأبقت على ازدهاره، وتركت له في العالم العربي وفي العالم الاوسع، صورة المجموعة المتجانسة والجماعة السياسية العاملة بالحوار والمتحد القابل للحياة والمجلس الاقتصادي الذي يعرف كيف يضمن ثروته الاساسية ودخله الرئيسي والعنصر الأول في بناء مستقبله وحماية اجياله، ليس فقط من تعديات الطامحين والطامعين ومنافستهم الاقتصادية، كما كان الأمر أيام السوفيات، وانما ايضاً من تجاوزات الشركاء الاساسيين ومطامعهم وتعدياتهم على حركة الاسعار وتلاعبهم بحركة السوق.

المؤسف ان تلك الصورة القديمة لم تعد قائمة، ولم يعد قادة الخليج يلتقون في مثل هذا الوقت من كل عام وهم يعطون للعالم انطباعاً بأنهم المنطقة العربية التي بلا خلافات والمؤسسة العربية الوحدوية الوحيدة القابلة للاستمرار والحياة والتقدم والتوسع. ولم تعد الاشياء المثيرة للخلاف تطوى بعيداً عن جدول الأعمال، ولا ظلت القضايا الشائكة تحال على الحكماء والتحكيم، بل هي الآن في ذروة الاثارة وبعيدة عن أسلوب العناق والمصافحات. والخليج الذي كان يتميز عن بقية الجسم العربي بالحصانة ضد الحملات والهجمات والصوت المرتفع، فقد شيئاً من هذه المناعة بكل وضوح.

درجت القاعدة ان تعقد القمة الخليجية في مثل هذا الموعد من كل عام، بعيداً عن «الأعين الحاسدة» والمراسلين الأجانب الذين يكونون ملهيين في هذا الوقت بأعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية في بلدانهم. وفي العادة تسعى القمم الى ان تحيط نفسها بأكبر قدر ممكن من الاهتمام الاعلامي. إلا قمة مجلس التعاون، فهي تكتفي من الصحافة بالمراسلين العاملين في الخليج، عربا وأجانب، ونادراً ما حضر اجنبي. فالخليجيون عادة لا يفصحون عن الكثير ولا يزيدون الكثير على ان «الاشياء تسير في مجراها الطبيعي» أو ان «المجتمعين تداولوا في ما هو خير الجميع والمصلحة العامة».

تنعقد القمة الحالية في مناخ مختلف وتسبقها تحديات سياسية جديدة وتحديات اقتصادية جديدها قديم، والقضايا الماثلة امام القادة تختلف أولوياتها باختلاف أولوياتهم، لكنها تشكل في المصب النهائي سيلاً سياسياً غير مألوف، وأول هذه القضايا من حيث التأثير على هيكلية المجلس وعمله، هي الخلاف البحريني ـ القطري الذي ازداد تأزماً وانعكاسات بالإحالة الى محكمة العدل الدولية، وليس العكس. وثانيها الموقف من حصار العراق الذي بدأ يتفكك بشكل واسع، من خلال بوابات الجوار غير الخليجي، أي سورية والأردن. وهناك قضية الجزر الاماراتية التي ترفض ايران، محافظة أو اصلاحية، البحث في أمرها. ثم هناك أسعار النفط التي عادت الى الهبوط بعد انتعاش موقت لم يدم طويلاً، وكل هذه القضايا يضاف اليها، موضوع الادارة الاميركية الجديدة، وهي ادارة «نفطية خليجية» بامتياز، فالرئيس الجديد ولد في عائلة تتعاطى صناعة النفط ونشأ في بيت يتولى سيده الحرب الكبرى من أجل الكويت، ووزير خارجيته العسكري المتقاعد، هو الرجل الذي قاد الحرب العسكرية بكل نواحيها من «رئاسة الاركان المشتركة» وهذا يجعل ادارة بوش، في رأي البعض، الأكثر التزاماً بعلاقة خاصة مع الخليج من أي ادارة سابقة، خصوصاً ان في الظل جورج بوش الأب وجيمس بيكر الثالث.

وقد ذهب المحلل البريطاني باتريك سيل الى حد القول ان الادارة الجمهورية سوف تترك جانباً المسار السوري والموضوع الفلسطيني لكي تركز على علاقتها مع الخليج. لكن هل ذلك ممكن حقاً؟ هل يقبل الخليج بأن يقيم علاقة مع الولايات المتحدة ـ أو مع سواها ـ غير محكومة في جوهرها بانعكاسات القضية العربية ومسألة الشرق الأوسط؟ سوف يكون هذا السؤال رئيسياً في القمة الخليجية، فالأمير عبد الله بن عبد العزيز هو الذي طلب في القمة العربية وقف كل تطبيع مع اسرائيل ثم بعد مدريد وخارج المسارات المعنية. والقمة الاسلامية في قطر لم تعقد إلا بعد إعلان الدوحة اغلاق مكتب التمثيل التجاري الاسرائيلي. ولم يعد من السهل فصل قضية عربية عن أخرى، بالاضافة الى ان لا رغبة لدى الدول الرئيسية في ذلك. فالسعودية قبل ان تكون الدولة الكبرى في مجلس التعاون هي دولة كبرى في العالم العربي وهي دولة متفردة في العالم الاسلامي. وقد بنت الرياض سياستها الاقتصادية، حكماً، على ثروتها النفطية لكنها لم تربط سياستها القومية بالعلاقة النفطية، ولم تخضع البعد القومي للبعد الاقتصادي، حتى في ذروة حرب الخليج أو في عز فورة مؤتمر مدريد. ولم تربط تحالفها مع جورج بوش الأب في حرب الخليج بموقفها في الصراع العربي الاسرائيلي أو بدعمها للفلسطينيين.

لذلك من التبسيط القول ان واشنطن سوف تعزل نفسها عن متاعب وتعقيدات الشرق الأوسط لكي تتكرس لعلاقة متطورة أو خاصة مع السعودية والخليج، بسبب وجود فريق عمل في الادارة له علاقاته الخاصة مع عرب المنطقة، بدءاً بنائب الرئيس ديك تشيني ومروراً بوزير الخارجية كولن باول. طبعاً مثل هذا الواقع لا بد ان ينعكس على طبيعة الاشياء في الخليج نفسه، حيث يقابل مستجدات تفكك الحصار الدولي على العراق، مجيء الفريق الأميركي الذي خاض حرب الخليج. أما ان يقال ان في الامكان عزل السياسة الخليجية عن السياسة العربية الرئيسية فهو أمر غير وارد، مهما تعرض لخروق أو تهافت.

لا يمكن للأسرة الواحدة ان تتفق على كل شيء. والاختلاف في الرأي ليس خلافاً في الود. لكن الخلافات التي تشكل خطراً على الأسر هي تلك التي تنزع الى القوة والحدة والتي تتخطى الجدل السياسي الى تهديد الأرض والسيادة والكيان، كما هو الحال في احتلال الجزر الاماراتية، أو كما في مطالبة قطر بجزء من البحرين بعد حوالي القرن من قيام الدولتين. أما القضايا الأخرى وموضوع الأولويات فأمور سياسية تحل من خلال الاطار المعمول به. ولا تعود هناك مشكلة في ان يكون موضوع العراق هو أولوية الكويت وان يكون موضوع الجزر اولوية الامارات. وقد اثبت حل القضايا الحدودية بين السعودية واليمن بعد سنوات طويلة من الاخذ والرد، ان كل شيء قابل للحل من خلال التفاوض والنظرة الواضحة الى المصالح المشتركة والمستقبل المشترك. وربما كان هذا السبيل الامثل لحل النزاع القطري ـ البحريني.

تلك هي التحديات ومصادر القلق. لكن المناخ السياسي المشوب بالتساؤلات، يجب الا يخفي صورة مجلس التعاون كمؤسسة عربية ذات اداء اقتصادي واجتماعي واداري وسياسي تغبطها عليه جميع المؤسسات المشابهة التي تعثرت او سقطت في بداية الطريق او في اوله. وخلف ارتفاع الضجيج السياسي كان المجلس يتقدم كل يوم خطوة في دعم المؤسسات الاتحادية وترسيخها وتوسيع آفاقها، وكان اهم ما حققه الشيخ جميل الحجيلان انه حصر مهام الامانة العامة وترك طموحات المجلس نفسه بلا حدود. وحول الامانة العامة الى هيئة تحد نشاطها في التطبيق وفي ملاحقة الخطوات الممكنة بحيث تشكل في مجموعها، خطوة اتحادية كبرى.

وقد رافق الشيخ جميل في باريس عشرين عاماً من مسيرة الوحدة الاوروبية. وكان يقول دائماً ان طموحه الوحيد من مجلس التعاون هو ان يحقق في الخليج ما حققه مفكرو الوحدة الاوروبية ودعاتها الذين صرفوا عملهم في بناء الاتحادات الاقتصادية التي شكلت في نهاية المطاف مدخلا الى المتحد الكبير. وفيما دخلت بعض دول المجلس في الخلاف، عرف جميل الحجيلان كيف يحمي الامانة العامة من خطر التجاذب. وقد استاء البعض بادئ الامر من هذا الحياد ثم اكتشفوا انه ينفع المختلفين ولا نفع لصاحبه فيه.