كي يحافظ بوش على مصالح أميركا في الشرق الأوسط

TT

لم نندهش للتصريحات التي ادلى بها جورج بوش الابن (الرئيس الاميركي الجديد) حول الشرق الأوسط، والعلاقات الاميركية ـ الاسرائيلية المنتظرة في عهده ولا فوجئنا بالحاحه على وعد اسرائيل قبل ان يدخل البيت الابيض بأنه ملتزم بأمنها وسلامتها. ولا استغربنا وعود ادارته العتيدة بنقل السفارة الاميركية الى القدس. وكذلك لم نصب بخيبة امل، أو بحافز من الاستفزاز تجاه وزير الخارجية المقبل الجنرال كولن باول الذي هدد وتوعد، وحاول ان يكون رقيقا وحاسما في آن.

فقد تعودنا على هذه التصرفات الاميركية، واصبحنا قادرين على الامساك باعصابنا عندما يتحدث المسؤولون الاميركيون عنا أو عن ازمة منطقتنا، لكن لا بد من ابداء عدد من الملاحظات تجاه الادارة الجديدة. ووضع هذه الملاحظات في تصرف السلطة الفلسطينية والمسؤولين العرب لعلها تساهم في تسليط اضواء جديدة على علاقة اميركا بنا، وعلاقتنا بأميركا.. الآن.. وفي المستقبل.

اولاً: لا بد ان نعرف ان ما يقوله الرئيس المرشح لا يجب ان ندرجه في خانة التنفيذ، فكثيرا ما وعدت الادارات الاميركية بنقل كذا ثم، عندما دخلت الى البيت الأبيض، اجلت التنفيذ، أو استغنت عنه نهائيا. وكذلك لا بد ان نتذكر ان الكونغرس الاميركي وافق منذ عدة سنوات على نقل السفارة الاميركية من تل ابيب الى القدس، وألزم وزارة الخارجية بهذا النقل، بل انه غرم هذه الوزارة بخصم مالي سنوي اذا هي لم تنقل سفارتها الى القدس. ومع ذلك لم يتمكن البيت الأبيض من تنفيذ رغبة 96 شيخا من شيوخ مجلس الشيوخ من اصل مئة شيخ يتألف منهم المجلس. واضطر الرئيس كلينتون نفسه، الى تنويم هذا القانون في ادراج مكتبه بهدوء باستعمال حق الفيتو ضده.

ثانياً: لا بد للسلطة الفلسطينية ان تدرك أن ادارة جديدة قد انتخبت وان عهدا جديدا سيبدأ في الولايات المتحدة بعد شهر، ولا بد ان تعرف ان هذا العهد الجديد مختلف عن العهد الماضي ليس الى درجة تدمير اسرائيل، ولكن الى درجة ان الرئيس بوش لا يريد ان يستغني عن مصالح اميركا في البلدان العربية.

ثالثا: لا بد للسلطة الفلسطينية، ان تسارع منذ الآن الى تخفيف اتكالها على كلينتون وادارته، والبدء فورا بمد اليد للعهد الجديد وسيد العهد الجديد.

رابعاً: الرئيس كلينتون قدم لمشروع السلام العربي ـ الاسرائيلي اقصى ما عنده، وافضل ما يستطيع ان يقدم. ولذلك، لا بد ان نعرف ان سقف اريحة كلينتون هو كامب دايفيد الثانية: اي امن اسرائيل الذي يعني بالنسبة اليه، تنازل الفلسطينيين عن القدس، والاكتفاء بمعبر وشارع وحيين هما حي المسلمين وحي المسيحيين في القدس القديمة. وما دام ان هذا هو آخر ما يكمن ان «يطلع» من كلينتون، فإن من مصلحة السلطة الفلسطينية ان تتقدم من فخامته بالشكر الجزيل، وتسارع الى التخلص من ضغوطه التي لا تطاق، حتى اذا استضافهم مع الاسرائيليين على مستوى القمة قبل رحيله.

خامسا: هناك جيمس بيكر الذي يمكن وصفه بأنه عراب العهد الاميركي الجديد. وجيمس بيكر صديق حميم لعدد كبير من الزعماء والسياسيين العرب. وهو متفهم تماما الموقف العربي من الصراع مع اسرائيل، ويعرف تماما قصتنا معها من «دق.. دق الى السلام عليكم» ولذلك سوف يكون من المتحمسين لان يسارع المسؤولون الفلسطينيون الى طلب النجدة من اصدقاء بيكر سواء بين الزعماء العرب او بين بعض رجالات العرب، كي يبدأوا بمد جسر من الود والتفاهم مع ادارة بوش الجديدة.

سادساً: هناك حقيقة اميركية يجب ألا تغرب عن بالنا وهي ان اسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة، دولة موجودة ويجب ان تكون قوية وآمنة وقادرة على التصدي للعرب جميعا في كل وقت وكل زمن وكل عهد، ولذلك فان مهمتنا مع الولايات المتحدة يجب ان تكون مبنية على عدم مجادلتها (بما تمون) به تجاه اسرائيل، بل بإقناعها بأن محبتها لاسرائيل يجب ألا تعني كراهية للعرب.

سابعا: قبل 1990 كانت للولايات المتحدة ثلاثة اهداف في الشرق الاوسط لا يمكنها الاستغناء عنها وهي: النفط العربي، وأمن اسرائيل، وتأمين مصالحها الحيوية والامنية في الشرق الاوسط. وعندما كان الاتحاد السوفيتي حيا يرزق.. كان اثنان من اهداف اميركا يميلان لاسرائيل وهما: مصالح الأمة الاميركية في المنطقة.. وهذه المصالح كانت تعتمد على اسرائيل لان اسرائيل هي الشبح الذي يلزم اميركا بالاستعداد الدائم للتدخل في منطقتنا. والهدف الثاني هو: امن اسرائيل نفسها. وامن اسرائيل كان يعني بالنسبة لواشنطن تقوية الجيش الاسرائيلي بحيث يصبح بمثابة خط الدفاع الاميركي الأول امام اي تقدم سوفياتي محتمل. لكن بعد وفاة الاتحاد السوفياتي تقلصت الاهداف الاميركية عندنا فأصبحت قاصرة على تأمين المصالح الاميركية الحيوية، وهذا يعني ان حاجة اميركا للنفط العربي اصبحت تفوق حاجة اميركا لاسرائيل، والدليل على ذلك ان الرئيس جورج بوش الأول.. اي والد الرئيس الجديد خاض أعتى حرب شهدها التاريخ حتى الآن لضرب العراق والحفاظ على مصالح بلاده الحيوية في الشرق الاوسط. وعندما حاول شامير ان يتدخل في الحرب أمره بوش بالسكوت فسكت رغم الصواريخ العراقية التي عبرت اجواء اسرائيل وألحقت اضرارا فيها.

اليوم، ليس امام الولايات المتحدة سوى هدف كبير وهدف صغير في الشرق الأوسط.

الهدف الكبير هو: مصالحها الحيوية. وهذه تستوجب علاقة ممتازة ومميزة بالعرب حتى اشعار اخر، فإذا كانت الشيوعية هي العدو الايديولوجي الاول لاميركا فهي العدو الاكبر للعرب وبمقدار اكبر من عداوة اميركا لها.

الهدف الصغير.. الذي اصبح خطيرا جدا هو: امن اسرائيل. وما دام العرب اختاروا ان يكون السلام مع اسرائيل هدفا استراتيجيا لا رجعة عنه.. فقد اصبح امن اسرائيل ممكن التحقيق بقليل جدا من الضغط الاميركي، والضغط المطلوب هو فقط الوقوف في وسط الدائرة على مسافة واحدة من العرب واسرائيل والتمسك بمبادرة جورج بوش الأول «الارض كلها مقابل السلام كله» وذلك بتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة. وهذه القرارات تخاطب اسرائيل فقط، خصوصا بعد مؤتمر مدريد حيث وافق العرب على انهاء الصراع معها. واحقاق السلام الدائم مقابل عودتها الى ما قبل حرب 1967 سواء على الجبهة السورية أو على الارض الفلسطينية. وعندئذ يصبح امن اسرائيل امرا مفروغا منه.

ثامناً: نحن نفهم تماما قلق الولايات المتحدة على اسرائيل. ونعرف تماما ان اسرائيل تتكل على اميركا كي تهرب من استحقاق السلام، ودفع فواتيره وخصوصا منها الفواتير الثلاث الكبرى وهي:

* حدود 1967

* والمستوطنات داخل اراضي 1967

* وحق العودة كذلك نحن نعرف ان واشنطن مضطرة لفهم وساوس اسرائيل فحق العودة مثلاً يعني عودة ثلاثة أو اربعة ملايين فلسطيني اليوم الى فلسطين التي احتلت عام 1948، اي: إلى اسرائيل. واسرائيل ترفض ذلك رفضا لا لبس حوله.

ونعرف ان المستوطنين اليهود داخل اراضي الضفة وغزة ليس لهم مكان كاف داخل اسرائيل 1967 ونعرف، طبقا لذلك، ان اميركا لا تمانع من حيث المنطق، ان تكبر مساحة اسرائيل قليلا بحيث تستطيع ان تستوعب المستوطنات وتأكل القدس.

وتعرف ذلك كله. ان منطق الادارة الاميركية تجاه المفاوضات الاسرائيلية ـ الفلسطينية يتمسك بحرفية النص وليس بروحه. فالأميركيون يقولون ان القدس والحدود (وهما موضوع هذا المقال على الأقل) هما موضوعان قابلان للاخذ والرد طبقا لنص اتفاق اوسلو الذي يقول ان التفاهم عليهما يتم بموجب المفاوضات النهائية. وكلمة مفاوضات تعني بالنسبة لواشنطن انه قد ينتج عنها اتفاق على تصغير او تكبير او تنازل او تخل.. او الى اخره ولذلك نرى في خلفية الذهن الاميركي ان ثمة قبولا عربيا ـ فلسطينيا بتغيرات جغرافية مقبلة.

وبالنسبة للولايات المتحدة لا فرق اذا كان هذا الظن مبنيا على ضغط عسكري اسرائيلي، او ضغط سياسي اميركي.

تاسعا: نعم.. نحن نفهم ذلك جيدا، ونعرفه جيدا وهو في كل حال، ليس بحاجة الى عباقرة كي يفهموه، لكننا نقترح بالمقابل ان يكون المنطق الاميركي مبنيا ايضا على اساس ان واشنطن وسيط وليست طرفا.

1 ـ فما الذي يمنع واشنطن، مثلا ان تساعدنا، بل ان تساعد نفسها على تأمين مبدأ الارض مقابل السلام، فإذا تم ذلك، تعود اراضي 1967 الى الفلسطينيين وتنتهي فورا حجة الحدود الأمنية.

2 ـ وما الذي يمنع الولايات المتحدة من المساعدة على اخلاء المستوطنات الاسرائيلية داخل الضفة وغزة، واعادة بناء مستوطنات بديلة داخل اسرائيل 1967.

وما دامت واشنطن هي التي دفعت المال لبناء المستوطنات داخل الضفة وغزة فليس هناك ما يحول دون ان تدفع لاعادة بنائها داخل اسرائيل.

3 ـ اذا انسحبت اسرائيل الى ما وراء خطوط 5 يونيو 1967 يصبح بإمكان السلطة الفلسطينية ـ مثلا ـ ان تفتح المستوطنات التي اخليت، للفلسطينيين الراغبين في العودة الى ديارهم وممتلكاتهم التي كانت في 1948 و1967.

4 ـ نحن نعرف ان لاسرائيل اكثر من 145 مستعمرة في اراضي الضفة وغزة، فإذا اخليت هذه المستوطنات سيكون معنى ذلك اتساع المجال لوجود 145 قرية فلسطينية على الاقل. وبما ان نظام العيش الفلسطيني مختلف عن النظام الاميركي، فإن البيت الذي يؤوي ثلاثة أو اربعة اسرائيليين، يستطيع ان يؤوي ثمانية او عشرة فلسطينيين.

واما الفلسطينيون الذين لا يريدون العودة، فيمكن تعويضهم أو ترك مشكلتهم للسلطة الفلسطينية التي عندها رؤية معينة لحل مشكلتهم.

5 ـ طبقا لاحصائيات اسرائيل نفسها، فإن المستوطنات اليهودية تتكشف في أربع مناطق داخل الضفة وغزة وهي:

* مجموعة مستوطنات على امتداد الجانب الغربي لنهر الاردن، اي في الاغوار.

* ومجموعة ثانية عند الجنوب الشرقي لبيت لحم جنوبا حتى الاغوار وشمالا حتى بيسان.

* ومجموعة ثالثة تمتد من القدس جنوباً الى جنين شمالا.

* ومجموعة رابعة في قطاع غزة وتركزت خصوصا جنوب مدينة غزة وشمال العريش.

وحتى عام 1985 كان عدد الوافدين من الخارج، للاستيطان في هذه المستعمرات يقارب (150) الف مستوطن في الضفة وغزة و (12) الف مستوطن حول القدس. ويبلغ عدد هؤلاء اليوم 300 الف يهودي وافد من روسيا وغيرها من الدول الاوروبية الشرقية.

فاذا اخلى هؤلاء مستوطناتهم تنفيذا للقرارات الدولية، يصبح من الممكن اسكان اكثر من مليوني فلسطيني فيها.

وبعد..

فمن المؤكد ان غرضنا من هذا المقال ليس الضغط على السلطة الفلسطينية او الايحاء لها بما ينبغي ان تفعل. فمن نحن كي نضغط او نخفف الضغط.

ومن المؤكد اننا لا نهدف الى اشعال فتنة بين العرب والادارة الاميركية الجديدة، بل وعلى العكس من ذلك.. فنحن نؤكد ان ادارة الرئيس الجديد جورج بوش، لن تكون اسرائيلية اكثر من ادارة كلينتون.

لكن هدفنا من هذا الكلام هو فقط محاولة توضيح معالم العلاقة الاميركية ـ الاسرائيلية، والامريكية ـ العربية.

واذاً كانت الأمم تقاس بحاضرها.. فإن الولايات المتحدة هي الحاضر والحضارة والعلم والقوة. واما اذا كانت تقاس بتاريخها وحضارتها وحاضرها.. فلا شك ان العرب ستكون لهم مواقع بارزة جدا بين الأمم. ولذلك، لا يجوز للمفاوض العربي ان يخرج عن هذه الحقيقة، كما لا يجوز للولايات المتحدة ان تفترض سلفا انها تفاوض شعبا بلا تاريخ ، او تضغط على شعب ذي حاضر عاثر.

اذاً ماذا سيكون موقف اميركا.. ومصالح اميركا.. اذا انقشعت غيمة الحاضر العربي، واندفع الجيل الجديد الى الحياة؟

واذا كان المكتوب يقرأ من عنوانه.. فسوف تكون الاجيال العربية المقبلة ناراً محرقة وجحيماً لا يطاق. فالتاريخ لا يقاس بخمس او خمسين سنة.

ولذلك، نرى من واجبنا توعية العقل الاميركي الى حقيقة تاريخية لم تخب مرة واحدة في التاريخ، وهي ان المنتصر النهائي هو الحق والحرية والاستقلال منذ الاسكندر حتى اليوم.

* كاتب فلسطيني