السلام بين العرب وإسرائيل بانتظار ولاية رئاسية أميركية جديدة

TT

عربياً، كان عام 2000 عاماً فلسطينياً، عام المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية التي بلغت ذروتها في خلوة كامب دافيد بين عرفات وباراك وكلينتون، إذ بدأ يكشف كل فريق أوراقه وانتهت بالفوارق الكبيرة التي ما زالت تفصل بين المواقف من السلام ومفاهيمه، وعام الانتفاضة الفلسطينية التي طوت صفحة كامب دافيد وفتحت صفحات جديدة في تاريخ القضية الفلسطينية وفي مواقف الدول العربية والاسلامية منها. وكما احتلت قضية السلام في الشرق الاوسط صدارة الاخبار في وسائل الاعلام، طوال السنة الفائتة، ابت إلا ان تبقى العنوان الأكبر في الاحداث، حتى آخر ساعة من آخر يوم منها.

لقد انقضى عام 2000 دون ان يتحقق السلام بين العرب واسرائيل ولم يبق هناك أي شك أو أمل في أن يختم الرئيس الاميركي ولايتيه الرئاسيتين بصورة يتوسط فيها عرفات وباراك، وهما يوقعان اتفاقية سلام، وحتى لو استأنف الرئيس الاميركي، أو وزير خارجيته الجديد وهو عسكري ـ دور الوسيط النشيط بين الاسرائيليين والفلسطينيين، فلا يرى المراقبون كيف سيتمكن الوسيط الجديد من ازالة العقبات التي تحول دون توصل الفريقين الى اتفاق سلمي، حتى ولو تضاءلت المسافة التي تفصل بينهما كثيراً قياساً بما كانت عليه في قمة كامب دافيد، فالمشروع الاميركي الجديد (الذي اطلعت الحكومة الاسرائيلية عليه، حتماً)، يبرز تراجعات اسرائيلية مبدئية وعملية وميدانية، عن مواقف سابقة، في موضوع القدس والمستعمرات ومساحة الدولة الفلسطينية واللاجئين، ولكنها تراجعات غير كافية لاقناع عرفات والسلطة الفلسطينية بالتوقيع وغير جديرة في حال قبول الفلسطينيين والعرب بها، بان توفر سلاماً حقيقياً ودائماً بين العرب والاسرائيليين. ترى، هل كتب على الشرق الأوسط بل والعالم ان يعيش القرن الحادي والعشرين مشغولاً بالصراع العربي ـ الاسرائيلي أو مهدداً به، كما عاش القرن العشرين؟

ان الصراع العربي ـ الاسرائيلي يختلف عن غيره من الصراعات الناشبة في العالم، بانه مزيج من الصراع التاريخي والصراع الديني والصراع الجغرافي والصراع البشري والصراع القانوني والصراع الوطني ـ السياسي. بعض اسبابه تعود الى آلاف السنين، وبعضها الآخر الى سقوط الامبراطورية العثمانية والاستعمار الغربي للشرق الأوسط، وبعضها الثالث الى الحرب العالمية الثانية وتنكيل هتلر باليهود، وبعضها الى الخمسين سنة الأخيرة التي شهدت حروبا اربعا بين العرب واسرائيل، ومن يتتبع محاضر كل المفاوضات التي جرت بين الطرفين العربي والاسرائيلي، منذ ان استبدلت لغة الحرب بلغة السلام، يلمس كيف ينتقل البحث من التاريخ الى القانون الدولي ومسألة الاستقلال والسيادة ومنه الى الأراضي والحدود ومنه الى المعتقدات أو التراث الديني ومنه الى حقوق الشعوب ومصالحها وأمنها وسبل عيشها، وعبثاً يحاول المتفاوضون ترتيب المشاكل حسب اهميتها أو الحاحها أو أولويتها أو مبدئيتها، فانهم لا يلبثون ان يكتشفوا انها متشابكة ومترابطة وان سحب أي مشكلة منها على حدة (كما تسحب خيوط شباك الصيد عندما تتشابك)، صعب جداً لأنه يزيد من عدد العقد أو من تشابكها. ثمة حقيقة راهنة وهي ان الفلسطينيين والعرب ليسوا وحدهم اليوم، بالمقتنعين بأن على اسرائيل لا عليهم التراجع عن المواقف أو «التنازل» عن «المغانم» و«المكاسب» فإسرائيل في نظر اكثرية دول العالم والدول الغربية الكبيرة في الطليعة، لم تعد تلك الدولة الصغيرة «المسكينة المسالمة، الديمقراطية»، التي يهددها العرب والفلسطينيون بالدمار أو بالتخريب بل ان القناعة الدولية، اليوم هي الى جانب الشعب الفلسطيني وضرورة اعطائه وطناً ودولة وحقوقاً، لكي يتوقف الصراع العربي ـ الاسرائيلي ويعم السلام الشرق الأوسط، وان اسرائيل تعرف ذلك جيداً، كما تعرف انها لن تنعم بالسلام والأمن والاعتراف بها من قبل الدول العربية والاسلامية، إلا اذا سلمت بالحقوق الفلسطينية المشروعة. فلماذا، اذن، هذا العناد وهذه المماطلة وهذا التهرب من الحقيقة والحقوق؟

لا شك في ان حكام اسرائيل والمنظمات اليهودية والصهيونية في العالم، ما كانت لتجرؤ على رفض قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، ولا على ضرب الشباب الفلسطيني بالنار، ولا على القيام بكل ما قامت به وتقوم به من اعتداء واغتصاب اراض و «تشليح» الدول والشعوب الغربية «تعويضات مالية كبيرة» منذ نصف قرن، لو لم تكن اسرائيل دولة قوية، بكل معاني ومظاهر القوة، أي عسكرياً واقتصادياً واعلامياً وايضاً، لو لم يكن الفلسطينيون والعرب والمسلمون، ضعفاء أو متفرقين أو متنازعين فيما بينهم ومع الدول الكبيرة وأيضاً لأن اسرائيل بواسطة الوجود اليهودي الفعال، سياسياً واعلامياً وثقافياً ومالياً في عواصم الدول الكبيرة، تستطيع التأثير مباشرة في الحياة السياسية وعلى مراكز القرار فيها. ولكن الام ستستمر هذه «السيطرة» الاسرائيلو ـ يهودية؟ الام يستمر الانقسام والتنازع بين الدول العربية والاسلامية؟ الام سيتقبل المجتمع الدولي هذه «الظاهرة» غير الطبيعية واللاتاريخية والمناقضة شكلاً واساساً لمجرى تاريخ الانسانية والعلاقات بين الشعوب؟

اننا لا نتصور اتفاقاً فلسطينياً ـ اسرائيلياً ممكنا، بدون مزيد من التراجعات الاسرائيلية بالنسبة للنقاط الاساسية الثلاث أو الأربع العالقة. ليس بالضرورة التسليم بـ «كل» الحقوق والمطالب دفعة واحدة، أو بتفكيك الدولة العبرية ومغادرة الاربعة ملايين يهودي ـ اسرائيلي الى البلاد التي نزحوا منها الى اسرائيل، كما يتمنى المثاليون أو الراديكاليون. وانما بقبول اسرائيل بالشروط التي تمنح الشعب الفلسطيني حدا أدنى من شعور السيادة والاستقلال والحياة الكريمة على أرضه أو التعويض عن حقوقه المسلوبة. واسرائيل تستطيع تحمل ثمن ذلك، اذا اقتنع حكامها وشعبها بان لا سلام ولا أمن الا بجوار فلسطيني آمن وسالم وحر. إلا اذا كانوا يؤثرون خياراً آخر وهو احاطة اسرائيل بجدار عال من الاسلاك الشائكة وقطع أي علاقة مع الجوار العربي والعيش كقلعة محصنة ومعزولة ومكروهة في الشرق الأوسط.

لسوء الحظ أو لحسنه، ربما ـ ليس هذا الخيار بالأفضل لاسرائيل وللاسرائيليين، ولا بد من الوصول الى اتفاقات سلمية مع الفلسطينيين والدول العربية بل الى حالة سلام مع الشعوب العربية والاسلامية. فالضعف والتمزق والتنازعات العربية ليست ابدية (حتى لو ظلت المخابرات الاسرائيلية تنفخ عليها أو تستثيرها) ولا بد للدول والشعوب الغربية والاميركية، ايضا من يوم تدرك فيها خطورة التأثير اليهودي الاسرائيلي عليها وعلى علاقاتها ومصالحها في الدول العربية والاسلامية. فهل يعني ذلك ان يمتنع الفلسطينيون والعرب عن توقيع أي اتفاق سلام مع اسرائيل اليوم، وطالما انها لم تسلم بالحد الأدنى المقبول من الحقوق؟ وان نكتفي بالانتظار؟ أم علينا ان نواصل الانتفاضة في فلسطين والدعم العربي والاسلامي لها. والعمل على توحيد الصفوف وكسب الرأي العام العالمي، والاستعداد العسكري والاقتصادي والحضاري، الذي يؤهلنا للتغلب، سلماً أو حرباً، على اسرائيل؟

ان حكام اسرائيل لم يتركوا امام الفلسطينيين والعرب سوى هذا الخيار الاخير أما السلام في الشرق الأوسط فيمكنه الانتظار ولاية اميركية أخرى وحكومات اسرائيلية عدة.