الحل المطلوب بين الاختلاط والانعزال

TT

هل المقترحات التي قدمها الرئيس الاميركي المودع بيل كلينتون صالحة لتصبح اتفاق اعلان نوايا لحل قضايا المرحلة النهائية مثل القدس واللاجئين والحدود... الخ ؟ الجواب المختصر هو النفي طبعاً، سواء لأسباب ثانوية سطحية، او لاخرى استراتيجية اعمق... المقترحات روُجت بأكاذيب متعمدة للضحك على الشارع العربي والفلسطيني وتصعيد الضغط العالمي على المفاوض الفلسطيني. حين قالوا ان المقترحات تعيد للفلسطينيين خمسة وتسعين بالمئة من الضفة وكل القطاع فأن الكذبة كانت مئة بالمئة لان ما يسمونه الضفة لا يعتمد مساحة القدس الشرقية التي وسعوها مراراً منذ الاحتلال قبل ثلاثة عقود وتشكل ربع مساحة الضفة... كذلك لم يحسبوا مساحة الشوارع التي يريدونها في الضفة لتؤمن المستوطنات، ولم يحسبوا مساحة الاراضي التي يريدون استئجارها بالاكراه لعشرين سنة دون ضمانة لاخلائها... وحتى لا نغرق في الارقام فمقولة الانسحاب من خمسة وتسعين بالمئة كلها كذب، وعلى ذات المنوال سيجد المتفحص التزييف في كل الطروحات. علينا تذكر ان الرئيس كلينتون يريد خدمة اسرائيل ونفسه قبل الرحيل، والجنرال باراك، الذي لا يختلف عربي ويهودي على سعة ذمته، يريد الاستفادة من اتفاق اعلان مبادئ جديد لينجح في الانتخابات المبكرة ويعيدنا الى الدوامة ذاتها. لقد انُتخب باراك بتوكيل لانجاز السلام ولكنه لم يفعل، كما ان اتفاق اعلان المبادئ الاوسلوي لم يطبق من الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، ولهذا يحق التساؤل: هل توجد ضمانة ان اتفاق اعلان مبادئ جديد لقضايا الحل النهائي سوف يطبق؟ هل توجد ضمانة ان تعثر المفاوضات حول تفاصيل الاتفاق لن تدفع اسرائيل للضغط والارهاب العسكري والتجويع والحصار كما تفعل الان ؟ ثم اذا طبق الاتفاق، فهل هو الطريق الامثل للسلام؟ او حتى الطريق الاقل ضرراً؟ لا يوجد ادنى شك بأن الرئيس كلينتون يريد منفعة شخصية معنوية من توقيع اتفاق هلامي سيُطنطن له عالياً قبل ان تسيل الدماء من جراء فشله، وباراك يريد البقاء على الكرسي، بينما الصهيونية بأطرافها العديدة ستسجل بسرور تنازلاً مجانياً اضافياً من الشعب الفلسطيني، بل تنازلات على غرار التنازل عن حق العودة، ومنح اليهود حقاً في مكان مقدس في القدس، وحقاً في الحياة داخل الضفة رغم مخالفة ذلك للشرائع الدولية، وصك غفران فلسطيني لاسرائيل عن مسؤوليتها في نكبة فلسطين وتهجير اهلها، وبالتالي الغاء لروح ونصوص القرارات الشرعية الدولية في غمضة عين بمجرد التوقيع على اقتراح كلينتون... بعد ذلك ستصل مفاوضات التفاصيل الى طريق مسدود سلفاً ويكون الفلسطينيون قد اعلنوا عدم ملكيتهم لحقوقهم كلها وينخرطون في سياسة التجرجر خلف انقاذ ما يمكن انقاذه بعد التخريب الذاتي لكل القضية وأسسها. من الواضح ان السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين لن يتم الا بأحد خيارين سلميين، اما الفصل السياسي السيادي الواضح على اساس قرارات الامم المتحدة وبالتحديد قرار التقسيم 181، او الدمج السياسي والاقتصادي التام حسب الوضع الحالي مع تطبيق قرارات الامم المتحدة المناسبة وفي مقدمتها قرار 194 المتعلق بحق العودة وحق التعويض. اما الحل المطروح من كلينتون وباراك، لو افترضنا حسن نيتهما وأنهم سيطبقون، فهو حل يعطي اسرائيل نصيبها من قرار التقسيم، زائد نصف النصيب الفلسطيني، زائد القدس، زائد الهيمنة على بقية النصيب الفلسطيني دون مساواة للبشر، او توازن للفرص، او تعويض مادي ومعنوي للفلسطيني الذي سيقول لسان حاله ان كل ما قالته وفعلته الصهيونية في فلسطين كان حقاً وشرعياً... من هنا تتولد عدمية الاقتراح الاميركي واستحالة ان يكون مقدمة للسلام. قرار التقسيم هو الحل الانساني الافضل كونه يراعي التعادل في المعاملة بين البشر، ولا يهضم الحقوق الخاصة للافراد بالملكية او السياسية او الاجتماعية... كما انه حتى اليوم يقدم الحل الافضل لقضية القدس. اضافة الى ذلك فقرار التقسيم يتماشى مع روح العصر واهمية التعايش والتعاون بين كل دول المنطقة ويفتح طريق الاستقلال والتنافس الايجابي بين النظم السياسية المختلفة... قرار التقسيم سيفتح المجال ايضاً امام حل قضية المستوطنات، ويحل بالطبع قضية اللاجئين، ويحسم الصراع من جذوره. حل التقسيم يسمح ايضاً لاسرائيل ان تبقى دولة يهودية سياسياً وتشريعياً مهما بلغ عدد العرب فيها، ويسمح لفلسطين بالهوية العربية سياسياً وتشريعياً مهما بلغ عدد اليهود فيها... كل التفاصيل متوفرة في القرار الذي قامت اسرائيل على اساسه ويُعترف بها دولياً حتى الان ضمن بنوده وشروطه التي لم يكتمل تطبيقها. الحل المنطقي الثاني حسب الوضع الحالي مضافاً اليه تطبيق قرار حق العودة والتعويض سيتطلب من الطرفين تنازلات سياسية تؤدي الى طريق التعادل بين المواطنين في كل فلسطين الطبيعية، ويمنح الى كل ذي حق حقه الشخصي، ويتاح لكل مواطن حقه في السكن والتنقل وغير ذلك كما في كل دول العالم... مثل هذا الحل سيحتاج الى تنازلات سياسية جوهرية من الطرفين اذ لن تصبح البلاد يهودية او عربية قومية، وانما مزيج جديد يحترم حقوق الانسان والفرص المتعادلة بين المواطنين في ظل دولة علمانية. الشعب الفلسطيني مستعد لقبول وتطبيق فوري لأي من الحلين، بينما معظم السياسيين الاسرائيليين واليمين اليهودي والصهيونية سيعارضون مثل تلك الحلول من منطلقات عنصرية وانتهازية بالدرجة الاولى... سيرون في الحلول هذه زعزعة لاسطورتهم رغم ان الحل سيعطيهم الشرعية... وسيرون ان التعادل سيكون على حساب الاخذ مما سرقوه، رغم ان ذلك الحل سيقدم لهم وللفلسطينيين المزيد من الرخاء... وسيكون عليهم الاعتراف بجرائمهم، رغم ان الحل لن يحاكمهم. اسرائيل تريد حلولاً تعطيها لوحدها، وتسمح لها بمواصلة استغلال الفلسطيني والهيمنة على العربي في كل المنطقة... هي غير مستعدة للسلام وانما تهدف الى التفوق، وذلك كما شاهدنا للان من تجربتها مع عرب اسرائيل، وفلسطينيي الضفة والقطاع، وتهربها من تطبيق الحلول والاتفاقيات، واستبعادها لافاق تعايش متعادل، واصرارها على تشريع وتطبيق القوانين العنصرية البحتة. لقد كانت ـ مثلاً ـ وما زالت قوانين الصهيونية واسرائيل تحرم استغلال الارض على غير اليهود حتى لو كانوا اسرائيليين عربا، بل صادرت سته وسبعين بالمئة من ارض مواطنيها العرب حملة الجنسية الاسرائيلية الان وتمنعهم من العودة لأراضيهم. اكثر من تسعين بالمئة من مساحة اسرائيل (ضمن حدود 1967) ملكية فلسطينية ثابتة حسب تأكيد وتسجيل لجنة التوفيق التابعة للامم المتحدة التي تشكلت لتطبيق قرار العودة والتعويض (اكثر من ثمانية عشر مليون دونم)... الارض فلسطينية الملكية، والنهب وصل ولم يذهب عن عرب يحملون الجنسية الى درجة ان مليونا منهم الان لا يملكون سوى ثلاثة بالمئة من مساحة اسرائيل بينما خمسة ملايين يهودي لم يشتروا الارض ابداً «يملكون» سبعة وتسعين بالمئة غالبيتها العظمى املاك لخمسة ملايين من اللاجئين الفلسطينيين. هذه الارقام لا تظهر الممارسة العنصرية فقط، او النهب الدموي، او حجم الفائدة العائدة على الاسرائيليين، ولكنها ايضاً تساعد على تفهم امكانيات الحل العادل حسب الخيارين اعلاه! تسعون بالمئة من الاسرائيليين اليهود يعيشون في مساحة 11%من اسرائيل، وهناك ثلاثة بالمئة من الاسرائيليين يقطنون الكيبوتزات والموشاف (قرى تعاونية زراعية) ولكنهم يسيطرون على تسعة ملايين دونم تشكل حوالي نصف الارض المنهوبة من الفلسطينيين! تلك الارض مؤجرة من دائرة اراضي اسرائيل الى الكيبوتزات والموشافيم...! بدل الايجار يعادل بليون دولار سنوياً يدخل خزينة الدولة. الزراعة عموماً من هذه الارض تقدم فقط اقل من اثنين بالمئة من الدخل القومي الاسرائيلي نظراً لنقص العمال وازمات الزراعة التي يحاولون حلها بتشغيل عمال من آسيا رغم معارضة ذلك لروح وقوانين الكيبوتزات والموشافيم... المنطق يقول ان خمسة ملايين لاجئ يمكنهم العودة الى مساحة نصف ارضهم المنهوبة ليعيشوا ويعملوا مع اليهود في تلك الارض ويرفعوا مستوى الجميع... لكن الدولة الاسرائيلية المؤُجرة للارض المنهوبة بدأت في العامين الماضيين تبيع الارض لاطراف يهودية ثالثة وتقتسم ثمنها مع الكيبوتزات... نهبوا الارض، وايجارها، ودخلها، وفشلوا في الاستفادة الافضل من زراعتها فاذا بهم يبيعونها دون ان يفكروا لحظة واحدة في دفع هذه الاموال الى صندوق تعويض دولي او الى الامم المتحدة... فهل يمكن ان نفكر فعلاً بأن هؤلاء يريدون حلاً سلمياً عادلاً؟ ان ثمن الدونم الواحد في وسط البلاد من ارض الفلسطينيين اللاجئين يباع الان للمقاولين اليهود بمليون دولار... هذا المبلغ هو ما يحلم به المستوطن في الضفة بعد ان يكرر ما حصل في شمال ووسط وجنوب فلسطين عبر الحل السلمي الذي يعطيهم الشرعية على السابق والحالي، وما سيتكرر اذا تكرر نجاحهم بهذه السهولة.