السير بخفين ناعمين

TT

هل من الممكن ان تعيش المجتمعات العربية في معزل عن العالم المتحضر، الذي اصبح يرفل في ثوب المدنية والحضارة؟! هل حياكة ألبسة متينة، صارت واجبا مفروضا، ومطلبا انسانيا على الشعوب العربية، لوقاية فكرها من رصاص التخلف؟! أم انها باتت تستحلي المشي في دروب الحياة باخفاف ناعمة، تاركة نوافذ المعرفة مشرعة على الغرب، تستنشق عبقه بحلاوة، دون ان تكلف نفسها معرفة ماهية هوائه، او تحليل مصادره؟! من يحمي مستقبل الشعوب؟! هل ترك المهمة للغرباء اضحى سمة عربية، ام انها جاءت كنتيجة طبيعية لتاريخ متقلب نزفت فيه الشعوب الكثير من دمائها، حتى وصلت في النهاية إلى قناعة غبية، أن لا فائدة من الهرولة، بعد ان باتت المسافات تتباعد بينها وبين غيرها من الشعوب المتحضرة على الارض يوما بعد يوم؟! هل حقا فات الأوان، للحاق بركب التقدم؟! من الذي اوصل الشخصية العربية لهذا الدرك من الاستهتار والتبعية، حتى تحولت إلى رجل آلي يهز رأسه طوعا لاوامر رؤسائه الغربيين؟! هل تخضع جملة المعارف، لنظام السياسي الذي تنتهجه كل دولة على حدة، كما يرى البعض؟! هل فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم في بعض بلدان العالم الثالث، ادى إلى وضع حواجز امنية، وإلى قفل الابواب والنوافذ امام افكار الآخرين، حتى لا تتسرب إلى مجتمعاتها، وتثير بلبلة فيها، بحجة انها شعوب معاقة، لا تستطيع اتخاذ قرارات سليمة في ما يخص مستقبلها؟! زمان.. حين كانت اوروبا غارقة في بحور الجهل، وكان العرب في أوج حضارتهم، انشأ الخليفة العباسي المأمون «دار الحكمة»، وهو دار مختصة بترجمة المعارف العلمية والانسانية كافة إلى العربية، التي ألفها قدماء الفلاسفة والمفكرين، وقام العلماء المسلمون بوضع بصمتهم الفكرية، وهويتهم الاسلامية عليها. في عصر النهضة انقلبت الآية، وبدأت اوروبا تترجم كتب التراث العربي، التي كانت مدخلا اساسيا في تطور الكثير من العلوم الحديثة في العالم، بشهادة بعض المستشرقين، المتصفين بالحيادية. ما الذي ادى إلى تراجع الترجمة في العالم العربي؟! لماذا بات المفكرون العرب، يعزفون عن طرق ابواب الترجمة، والنهل من ينابيع المعرفة الغربية، على الرغم من اهميتها البالغة في دفع عجلة التطور؟! لماذا ادارت المؤسسات العلمية العربية ظهرها للترجمة؟! يرى بعض المتخصصين، ان تباين الترجمة ادى إلى هشاشة الكتب المترجمة، من حيث تناول بعض المترجمين للكتاب حرفيا، وتناول البعض الاخر له، من منطلق الاعتماد على روح العمل. كما ان ترجمة العمل الواحد، في فترة زمنية متقاربة، اضعف من قيمته، واخضعه للازدواجية، كون الكتاب المترجم يتأثر بفكر صاحب الترجمة. كذلك عدم وجود تنسيق بين المؤسسات المختلفة للترجمة، وعدم الاهتمام بوضع خطة كاملة يتم على اساسها اختيار الكتب المترجمة، التي تساهم في بلورة فكر المجتمعات من النواحي العملية والفكرية والاقتصادية، ادى إلى ضياع الوقت، وبعثرة الاموال المخصصة لمشاريع الترجمة. كما ان هناك عاملا مهما، وهي الشروط المالية التعجيزية، التي يضعها الناشرون الاجانب، او المؤلفون الاصليون، مقابل ترجمة كتبهم للعربية، مما دفع بالعديد من المؤسسات في التردد قبل الإقدام على ترجمة كتاب معين، خاصة في ظل القوانين الجديدة، الخاصة بحماية الحقوق الفكرية للمؤلف. كل هذه العقبات بالامكان تجاوزها، من خلال احياء فكرة الاديب طه حسين، الذي طالب بوجوب اقامة مؤسسة عربية كبيرة للترجمة، تهتم بنشر النتاج العالمي. هذه الامنية للاسف، تبنتها الجامعة العربية، لكنها لم تر النور إلى اليوم على الرغم من اهميتها، لعدم توفر ميزانية لتنشئتها، على الرغم من اهميتها المستقبلية. لقد ادركت اسرائيل اهمية النتاج المعرفي المزدوج، واشتركت مع العديد من دور النشر العالمية لترجمة كتب مؤلفيها إلى جميع لغات العالم، لترويج معتقداتها وآرائها في المجتمعات الغربية، بجانب حرصها على ترجمة بعض الاعمال العربية التي تكشف عن ماهية تفكير العرب، من منطلق قاعدة اعرف عدوك.

الغريب ان ادباء امريكا اللاتينية، امثال جابريل جارسيا ماركيز، وجورجي امادو وغيرهما، اللذين تعتبر كتبهم اكثر الكتب رواجا في العالم، يعترفون ان الواقعية السحرية التي يتميز بها ادبهما، تعود إلى تأثرهم بقصص ألف ليلة وليلة. لماذا لا تجد الكتب العربية المترجمة للغات الاخرى رواجا في العالم، كما حدث مع ادباء امريكا اللاتينية؟! هل تصدق الحجة التي اطلقتها بعض دور النشر في الخارج، ان اللغة العربية لغة ميتة، لذا يتجاهلون نتاج ادبائها المكتوب باللغة العربية؟! هل بالفعل الرأي الذي تردده بعض الدور الغربية، ان مشكلة الادباء العرب انهم يقلدون مدارس الغرب بطريقة ممسوخة، ولا يأتون بجديد، هو الذي جعل المجتمعات هناك، تنظر بعين الاستخفاف لما تكتبه الاقلام العربية، ام انها حجج واهية للتملص من نشر الافكار العربية والاسلامية، المخالفة للتوجهات الغربية في اغلب الاحيان؟! المفكر الفلسطيني الاصل ادوارد سعيد، يرى ان مؤلفات الاديب نجيب محفوظ المترجمة للانجليزية لا تلقى رواجا، على الرغم من حصوله على جائزة نوبل للآداب منذ اثني عشر عاما، حيث ان الحاصلين عليها تصبح كتبهم اكثر الكتب مبيعا في العالم، ويعتقد ان السبب يعود إلى ان القائمين على ترجمة اعماله لم يقدموا الصورة الحقيقية لها، ولم يبينوا مواطن الجمال فيها، ولم يبرزوا اسلوبه المتميز، بجانب ان تعدد مترجمي اعماله، ادى إلى ضياع هوية محفوظ الابداعية، اضافة إلى قلة الاهتمام بالتعاقد مع ناشرين كبار في الخارج لنشر نتاجه.

لقد خصص المجلس الاعلى للثقافة في مصر، RVERة مالية تقدم كل سنتين لافضل مترجم عربي، وهي بداية جيدة، لكن لا بد من انعاش جهاز الترجمة، الذي بات يتنفس بصعوبة، من خلال مساهمة رجال الاعمال، والمؤسسات الخاصة في تمويل هذا الجانب الحيوي كما يحدث بدول الغرب، ووجوب اهتمام المؤسسات العالمية بالترجمة، بعد ان تقاعست عن دورها الحيوي في هذا المضمار. ان القادم اصعب، واذا لم نخطط بروية في مصائر اجيالنا القادمة، سنضطر إلى القائها بايدينا في خضم الهلاك، وقتها ستضحك علينا امم الارض، ويشيرون إلينا قائلين: انظروا لشعوب رمت ابناءها في يم الضلال بطيب خاطر، دون ان تهتز اجفانها.