لحظة الحقيقة: الخيارات الثلاثة

TT

يطول الحديث بنا لو حاولنا استعراض العوامل التي وصلت بنا إلى الموقف العربي الراهن، ويحتدم الاختلاف. إلا انني أعتقد ان بوسعنا الاتفاق على جملة حقائق تصف الواقع العربي الذي نعيشه:

* هناك قضية فلسطينية تمر بمفترق طرق.. والمطلوب اتخاذ قرارات قد تحسم مصيرها حسما نهائيا.. أو على الأقل، خلال مدة طويلة

* هناك نفوذ واضح تمارسه أمريكا على الدول العربية جميعها باستثناء دولة أو دولتين تتمنيان عودة العلاقات مع أمريكا (وعودة النفوذ!)

* هناك تفوق عسكري إسرائيلي واضح يجعل المواجهة العسكرية مع إسرائيل انتحارا مؤكدا

* هناك في كل دولة عربية مصالح قطرية قوية تتفوق، عند الاختلاف، على أية مصالح قومية اذا امكننا ان نتفق على ان هذه صورة قريبة من الدقة للواقع العربي، يمكننا ان نتقدم، خطوة ثانية، فنرى ما هي الخيارات العملية المطروحة امام العالم العربي في الظروف المصيرية التي تمر بها قضية فلسطين.

الخيار الأول، هو دعم الانتفاضة الفلسطينية وتشجعيها وحث الفلسطينيين على المقاومة إلى آخر المدى. هذا هو الخيار الذي يفضله «مفكرو المقاهي» و«خطباء القنوات الفضائية». ورغم ان الخيار يعرض بطريقة انشائية منفعلة، ويقفز فوق كل حقائق الواقع، إلا أنه يبقى، بلا شك، خيارا واردا. يتطلب هذا الخيار، بادئ ذي بدء، استعداد الدول العربية كلها، والمحيطة بفلسطين بشكل خاص، لتحمل عدد من التضحيات.

لا بد، اولا، من تحمل قليل او كثير من التدهور في العلاقة مع امريكا. ولا بد، ثانيا، من تجميد كل العلاقات مع اسرائيل. ولا بد، ثالثا، من دعم مالي سخي جدا للفلسطينيين يفوق اضعافا مضاعفة الدعم المحدود الذي اعلن عنه (وقد يصل أو لا يصل). اتمنى شخصيا من اعماق اعماقي ان توجد الارادة السياسية العربية لاتخاذ هذا القرار.

اذا تبين ان هذا الخيار غير وارد، ويمكننا ان نناقش إلى الأبد الأسباب، تبرز أمامنا نسخة اخرى مخففة من الخيار الاول. وفي هذا الخيار لا نشجع الانتفاضة ولا نقاومها، ولا نعرّض علاقتنا مع امريكا لأي توتر، ونترك علاقات اسرائيل بالدول التي تعترف بها قائمة على حالها. وهنا لا بد ان يتركز جهدنا على الدعم المالي، على نحو يفوق اضعافا مضاعفة ما يقدم الآن. وأسمح لنفسي، هنا، مرة اخرى ان اعيد طرح اقتراحين سبق ان طرحتهما من قبل: تخصيص دولار واحد من ثمن كل برميل للبترول لدعم الفلسطينيين، وتبرع كل مواطن براتب يوم واحد من راتب كل شهر للغرض نفسه.

هذا الدعم، لو كنا جادين، سيخرج بحصيلة سنوية تزيد على حصيلة الدعم الامريكي السنوي لاسرائيل، وسوف يمكّن الفلسطينيين من الاستمرار في انتفاضة صغيرة دائمة تنهك الاسرائيليين وتغير الوقائع.

يبقى الخيار الثالث، وهو للأسف، الخيار الذي يبدو مسيطرا، بحكم الواقع، لا بقرار سياسي واضح، على الموقف: التفرج على ما يدور، وترك الفلسطينيين وشأنهم، والاكتفاء بالمبادرات الرمزية ـ (وفي مقدمتها مقاطعة الهمبورجر!). لا نحتاج إلى بلورات لمعرفة ما سيقود إليه هذا الخيار. سوف تقف المفاوضات مع الفلسطينيين تماما، وسوف تنسحب القوات الاسرائيلية من نقاط المواجهة وتضرب حصارا كثيفا على المناطق الفلسطينية، وسوف يبقى الفلسطينيون، حتى اشعار آخر، بلا دولة. بديهي ان الانتفاضة، في ظل هذه الظروف، لا يمكن ان تستمر. وبديهي ان صقور اسرائيل، الذي يمثلون الغالبية حاليا، سيستريحون، تماما، إلى اوضاع كهذه.

حسنا! ماذا يدور في اوساط المفكرين العرب؟ بدلا من تشخيص حقيقي للوقائع وبحث موضوعي للبدائل، لا نرى سوى المزايدة البلاغية. حقيقة الامر انه حتى في الاوساط الفلسطينية لا يعرف احد كيف تفكر القيادة الفلسطينية. أسمع كل يوم عشرين تصريحا من عشرين مسؤولا فلسطينيا (بالمناسبة لو كنت مكان الرئيس عرفات لأمرت بعدم حديث اي مسؤول فلسطينيي سوى الدكتورة حنان عشراوي!). هناك من يقسم ان الانتفاضة سوف تستمر. وهناك من يقول ان المفاوضات ستستأنف. وهناك من يقسم ان العرض الامريكي مرفوض. وهناك من يؤكد ان العرض الامريكي مقبول بشروط. أنا، على أية حال، أصارحكم بأنني لا أعرف حقيقة العرض الاميركي، ولا اعرف حقيقة الموقف الفلسطيني. كل ما اعرفه ـ وما يتضح يوما بعد يوم ـ اننا نواجه لحظات مصيرية حاسمة بمزايدات انشائية.

يمكن للشعوب ان تؤجل بعض القرارات بعض الوقت. ثم تجيء لحظة تاريخية يمكن ان نسميها لحظة الحقيقة، وفي هذه اللحظة يصبح التأجيل، بالضرورة، قراراً بالاستسلام. ونحن الآن نمر بلحظة كهذه. اسرائيل، بصرف النظر عن التصريحات المتناقضة، وهي متناقضة عمداً لا غفلة كما هو الحال لدينا، حزمت امرها: إما قبول العرض الاسرائيلي الهزيل المطروح من قبل في كامب ديفيد، وإما المواجهة. ونحن الآن مدعوون إلى مقابلة هذا الموقف الاسرائيلي، إما بموقف عربي متشدد جدا، او بموقف عربي متشدد بعض الشيء، او بموقف عربي يمكن تلخيصه في الآية الكريمة التي تتحدث عن اليهود، إلا انها الآن تصف واقع العرب والمسلمين بصدق معجز: «قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك وقاتلا إنا ها هنا قاعدون». وأخشى ما أخشاه، ان مصيرنا سوف يكون مصير بني اسرائيل وقتها «قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين».

الخيار الرابع، إذن، هو انتظار نشوء جيل عربي اسلامي جديد يحارب بعد اربعين سنة، وليس ذلك على الله ببعيد.