في يوم التنصيب: مسؤولية أمريكية + حركة عربية ذكية

TT

«لقد اخطأنا في تجاهل الرأي العام الفلسطيني».. (دنيس روس) المنسق الامريكي لعملية التسوية في المنطقة العربية.

«لقد ارتكبت ادارة بلادي اخطاء في عملية التسوية وتجاه الفلسطينيين».. (مارتن انديك) سفير الولايات المتحدة الامريكية لدى اسرائيل.

ومن قبل قالت (مادلين اولبرايت) ـ وزيرة الخارجية الامريكية السابقة ـ: «ان معاناتي من الاضطهاد وأنا صغيرة اثرت في معتقداتي السياسية».

لماذا هذه الاعتراضات او الاقرارات الآن؟

ايا كانت الدوافع والمقاصد: الشخصية او الطائفية، فإن هذا الكلام يصرح به، في اللحظات الاخيرة لادارة (كلينتون).. وفي اللحظات الاولى لاستلام الرئيس الامريكي الجديد (جورج الثاني) مقاليد السلطة في واشنطن. ففي هذا اليوم (السبت) ستنتقل السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة من الديمقراطيين الى الجمهوريين. ومن بيل كلينتون الى جورج بوش الابن.

والسؤال هو: هل سيكون موقف الادارة الجديدة احسن حالا بازاء الصراع العربي الصهيوني وبازاء القضية الفلسطينية بوجه خاص؟

اذا كان لاصحاب الاقوال المثبتة آنفا ـ وأمثالهم كثر في ادارة كلينتون ـ اذا كان لهؤلاء اثر سلبي في مسار التسوية السياسية في المنطقة، فإن من الملاحظ: ان عدد هذه النوعية قد قل او تراجع كثيرا في مواقع الادارة الجديدة.. فهل يصح ان يكون ذلك مؤشرا او قرينة على ان هذه الادارة ستكون اكثر عدالة وحيادا ونزاهة في جهود التسوية؟.. ربما.

ان وزير الخارجية الامريكية الجديد (كولن باول) قال ـ وهو يهم بمباشرة مهامه الرسمية: «ان الولايات المتحدة ستبقي على عملية السلام في الشرق الأوسط، وستتحرك قدما وستسعى من اجل سلام دائم يقوم على دعم لا يتزعزع لأمن اسرائيل، وعلى تلبية الطموحات المشروعة للشعب الفلسطيني، وعلى صداقتنا مع العالم العربي».

وفي هذا الكلام نزوع الى (التوازن). وإن كان التعبير الخاص باسرائيل اقوى، اذ يقتضي التوازن التعبيري ـ الذي ينبني عليه عمل ـ ان تكون العبارة الخاصة بالشعب الفلسطيني هي: «ونقف بصلابة مع حقوق الشعب الفلسطيني». وان تكون العبارة الخاصة بالوطن العربي هي: «وسنحافظ بثبات لا يتزعزع على صداقتنا مع العالم العربي».

بيد ان الاهم من التوازن التعبيري هو (التوازن الفعلي) او العملي.. وعلينا ـ ابتداء ـ ان نحمل كلام الوزير على حسن النية فنقول:

ان الافصاح عن دعم امن اسرائيل تحصيل حاصل، اذ هو موقف اعتادته الادارات الامريكية المتعاقبة: الديمقراطية والجمهورية منذ قيام اسرائيل وحتى اليوم.. وانه لمن الخيال، او الاسترسال مع الاوهام: توقع ان يقول مسؤول امريكي ـ في اي مرتبة كان ـ:«ان الولايات المتحدة ستعيد النظر في استراتيجيتها الداعمة لامن اسرائيل». فالعلاقة بين الطرفين اقوى وأثبت من هذا التصور الساذج.. نعم، هو تحصيل حاصل: ان ينظر الامريكيون الى (امن اسرائيل) بهذه النظرة التقليدية او النمطية. وبدهي ان هذا لا ينفي ان هناك اجتهادات في النظرية ذاتها. فبعض الادارات تتبنى وجهة نظر اسرائيل، حتى وإن ترتب على التبني (ضرر) بالمصالح القومية للولايات المتحدة. والبعض الآخر من الادارات يجتهد في (تكييف) امن اسرائيل بأمن ومصالح امريكا. بمعنى: ان المقياس هو: المصالح الحيوية الامريكية. ومن حسن الظن الابتدائي بالتوجه الامريكي الذي تبدى في تصريحات الوزير باول: ان نفهم ان (طموحات) الشعب الفلسطيني تعني: السيادة الفلسطينية على القدس.. وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى وطنهم.. وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الكاملة، اي ان طمؤحات الشعب الفلسطيني تعني: تجديد الادارة الامريكية التزامها بـ(الشرعية الدولية) التي اسهمت ادارة (جورج بوش الاب) في التركيز عليها، وجعلها مرجعية للتسوية من خلال مؤتمر (مدريد) الشهير.

ومن حسن الظن الابتدائي بالتوجه الامريكي الجديد: ان نفهم: ان صداقة الولايات المتحدة للعالم العربي تعني: ان العرب امة كبيرة، فاقت الولايات المتحدة عداً، وان لهذه الامة مصالح وأمنا ينبغي ان تراعى ويحسب حسابها في كل استراتيجية امريكية في المنطقة. وانه ليس من الصداقة في شيء: التضحية بمصالح العرب وأمنهم في سبيل اسرائيل وغلاتها.

وليس من بد من الفصل التام ـ امريكيا ـ بين الموقفين: الامريكي والاسرائيلي في هذا المجال. بل نقول: ان هذا الفصل (قاعدة استراتيجية) للتعامل الجدي والمجدي مع العرب.. كيف؟.. ان اسرائيل تبني وجودها واستقرارها على اساس سلبي فيما يتعلق بالمنطقة العربية. وهذا الاساس السلبي هو: ان يظل الوطن العربي متصدعا متوترا مشحونا بالقلاقل والاضطرابات، وان تظل كل دولة عربية في مثل هذه الصورة. ولاسرائيل فلسفة معينة ومعتمدة في ذلك وهي: ان الاستقرار في البلدان العربية له ترجمة عملية تتمثل في صيغ شتى من النماء والبناء والنهوض الشامل العلمي والتقني والاقتصادي والاداري والثقافي والاجتماعي، وان هذه الصيغ مجتمعة تثمر (قوة كمية ونوعية) مدنية وحضرية.. وهذا خطر على اسرائيل ـ بالمقياس الصهيوني ـ اذن. فمن فلسفة اسرائيل السياسية، بل الاستراتيجية الثابتة: ان يظل العرب ضعافا مهازيل حيث ان هذا هو الضمان الوحيد ـ في نظرها ـ لأمنها الحقيقي والطويل الامد. ومن اجل توفير هذا الضمان يجب ان تتبنى اسرائيل ـ هكذا يتصورون ـ: ضرب استقرار المنطقة العربية باستمرار .. وليس من مصلحة امريكا ـ قط ـ: استعارة هذه المفاهيم الصهيونية. ومن هنا يتعين الفصل بين التوجهين: الامريكي والاسرائيلي تجاه المنطقة العربية، وهو فصل يقتضيه ـ بالضرورة ـ الحرص الامريكي على صداقة العرب التي اشار اليها كولن باول.

والفصل مستطاع غير مستحيل. مثلا: في حرب تحرير الكويت حاولت اسرائيل ان تحشر نفسها وتتدخل. ولقد تكشفت معلومات تقول: ان اسرائيل قد اجرت تجارب على التدخل، في مكان ما. وانها جهزت موجات من الطيران وزودته بأوامر محددة للتدخل في اليوم الثالث لاندلاع حرب التحرير. بيد ان الادارة الامريكية في ذلك الوقت اتخذت قرارها، وألزمت اسرائيل ـ بحزم ـ بعدم التدخل في الحرب. وهذا دليل مادي: استراتيجي وسياسي وعسكري، على ان الولايات المتحدة تستطيع ان تخدم مصالحها بدون وسيط استراتيجي، او وكيل اقليمي. وبمناسبة الوكيل الاقليمي، لعل امريكا قد استفادت من تجربتها مع شاه ايران في هذا الميدان. فقد اتخذت الشاه (وكيلا اقليميا)، وأهلته لذلك بكل وسائل التأهيل، من اهمها: ترسانة السلاح الضخمة.. فماذا كانت النتيجة؟.. انهار الوكيل الاقليمي، وانهارت معه الترتيبات المرتبطة بوجوده ووكالته.

ومن الخبل السياسي: تصور ان امريكا عليها ان تستوعب ذلك وتتمثله دون رؤية عربية واضحة، ودون نشاط عربي مكثف.

ان المناخ مهيأ ـ والقرائن على ذلك عديدة ـ لمكاشفة الامريكيين ومصارحتهم بسفور كامل.. ومن المصارحة ان يُسألوا بوضوح: ماذا يريدون بالضبط؟.. وما هي مصالحهم الوطنية المنفصلة عن اوهام اسرائيل؟.. وما هي مصالحهم المختلطة بالمصالح الاسرائيلية؟.. ولماذا تسببت سياساتهم في الفترة السابقة في دفع المنطقة الى المزيد من التوتر والهيجان والالتهاب. وليس هناك بديل عقلاني للمصارحة، فالبديل غير العقلاني هو: الصمت المطبق. وهذا نوع من الانتحار السياسي.. او التشنج الابله. وهذا سلوك يقدم للعدو خدمة كبرى.. او الايحاء بالرضى بما جرى ويجري، وهذه مذلة مميتة.. او تخيل ان امريكا يمكن ان تغير او تعدل سياستها دون ان تمس ساحتها، اي تتعدل سياستها بالنفح السحري عن بعد، وهذا جنون بمعناه العلمي.. والمصارحة المبتغاة ليست كلمات انشائية. بل يتوجب ان تعتمد المصارحة على منظومة من الحقائق والوقائع من بينها: الغليان الشعبي العام في المنطقة، وهو غليان معلل ـ في جوانب كثيرة منه ـ بالمواقف الامريكية المنحازة ـ باطلاق ـ الى المؤسسة الصهيونية.. وتدهور سمعة امريكا في الوطن العربي.. وايجاد مناخات لتهديد المصالح والامن القومي الامريكي.. والحرج الذي سببته هذه المواقف لحكومات يُدَّعى صداقتها.. وتدني القيمة النظرية والعملية لـ(الشرعية الدولية).

وفي ذات الوقت الذي تجرى فيه هذه المصارحة مع الادارة الامريكية الجديدة، يتعين التوجه بخطاب حصيف ومتكامل ومتناسق الى الامريكيين بعامة في مختلف المواقع. وهو خطاب يساعد على ايصاله الى الشرائح الامريكية: تهيؤ نفسي وفكري وسياسي عام... ومن الدلائل على هذا التهيؤ: تصاعد النقد الامريكي ذاته للسياسة الخارجية الامريكية في الفترة الغابرة. مثال ذلك ما قاله (جيمس شيلزنجر) ـ وزير الدفاع ومدير المخابرات المركزية الاسبق ـ اذ قال: «ان السياسة الخارجية للولايات المتحدة ـ بعد انتهاء الحرب الباردة ـ غير واضحة، بل مضطربة ليس بالنسبة لخصوم امريكا فحسب، بل كذلك بالنسبة لاصدقائها الذين تسببت في احراجهم ومضايقتهم».. ومن هذه الدلائل: التحول الملموس في اتجاهات الرأي العام الامريكي لصالح القضية العربية وهو تحول وثقته نتائج استطلاعات الرأي.. والوعي المتنامي بزيادة حجم المصالح الامريكية في الوطن العربي.. والشعور المتزايد بأن غلاة الصهيونية قد تجاوزوا حدود اللعبة في كثير من الاحيان ولا سيما فيما يتصل بالقضايا العربية.. ولن يعدم العرب مداخل موضوعية لهذا الخطاب العادل العاقل المتحضر.. ويمكن الاشارة الى عدد من هذه المداخل. فهناك مدخل: ان العرب لم يعودوا يتهمون بأنهم (اعداء) السلام الحقيقي. ومدخل: ان ليس في العرب من يهدد المصالح الامريكية المنفصلة عن الأهواء الصهيونية.. ومدخل: ان من حقوق الانسان: ان يتمتع الشعب الفلسطيني ـ كسائر الشعوب ـ بحقه في الحرية والاستقلال.. ومدخل.. ومدخل.. و. و. و...