العولمة شيوعية الرأسمالية

TT

تشدد القوات السويسرية الحصار على مدينة دافوس التي سيعقد بها غداً الخميس 26 يناير 2001 المنتدى الاقتصادي الدولي، الذي اختار هذه المدينة السويسرية لتكون مقراً له. ويبدو النشاط الأمني السويسري واقفا على قدم وساق حتى يمنع تكرار ما حدث في العام الماضي من مظاهرات ضد القمة التي انفضت قبل ان يناقش المؤتمرون جدول الاعمال، لأن جماهير الشعب عبرت بقوة عن رفضها للعولمة.

سبقت هذه المظاهرات في دافوس خلال العام الماضي مظاهرات شعبية في المدينة الاميركية سياتل ضد اللقاء المنعقد بها تحت مظلة منظمة التجارة العالمية، وكان هدف الجماهير الشعبية تعطيل عضوية الدول في هذه المنظمة حتى تمنع الأخذ بالعولمة، وانفض المؤتمر في سياتل قبل ان يبدأ، ولجأت الولايات المتحدة الاميركية الى اغلاق ابواب المؤتمرات المتعلقة بالعولمة في اراضيها «بالضبة والمفتاح» لتخفي التناقض الحاد بين رغبة الحكومة بالوصول الى العولمة وتوجه الجماهير الشعبية الى رفض العولمة، لتتجنب واشنطن الظهور أمام العالم برداء الديكتاتور الذي يتخذ القرارات بعيداً عن رغبة الجماهير الشعبية ومصالحها.

لم تقتصر المعارضة الشعبية في اميركا وسويسرا على العولمة عندهما فقط بالمظاهرات الصاخبة التي قام بها الشعبان الاميركي في سياتل والسويسري في دافوس، وانما أخذ الشعبان على عاتقهما ايضا تنظيم العمل السياسي على مستوى الجماهير في كافة أنحاء العالم على اختلاف درجات تقدمه من خلال المنظمات الشعبية التي وصل عددها الى خمسمائة منظمة شعبية تطالب جميعها بوقف المسيرة في طريق العولمة والالتزام بقواعد التجارة الدولية التقليدية السارية المفعول التي تحافظ لكل دولة على خصوصيتها الاقتصادية، ليتم التبادل التجاري على أسس منطقية تستند الى تنوع الانتاج بين مختلف بقاع الأرض، فتصدر كل دولة ما تتفوق في انتاجه وتستورد من غيرها ما يتفوقون في انتاجه.

الموقف الشعبي العام المعارض للعولمة، ليس مسلكاً غوغائياً ناتجاً عن انفعالات الدهماء، كما تحاول ان تصوره الحكومات الراغبة بالعولمة، لان جمهرة المفكرين من أهل النخبة في العالم يعارضون بقوة العولمة، التي لن يكون تأثيرها فقط في المجال الاقتصادي، وانما ستفرض أيضاً تغييرات جذرية في الفكر الانساني المتنوع المرتكز على اختلاف العقائد الدينية والموروثات الثقافية وما تفرضانه من قيم ومثل ومبادئ مختلفة تثري البشرية بمعين لا ينضب من الأفكار المتنوعة التي كانت سببا في التطور الحضاري للجنس البشري على الأرض.

اغلاق ابواب سبل الفكر المتنوع يحاصر الانسان وراء قضبان الفكر الواحد الذي يقضي على تميز الانسان بفكر المنتمي الى الأرض وما ينبعث منها من ثقافات تحدد مسار الأوطان المختلفة لتلتقي بعضها مع بعض في مواقع تفيد بعطائها وتستفيد بالأخذ من غيرها ليتكامل الفكر الانساني برؤى شمولية تحقق فهما افضل للحياة بالخصوصية الاجتماعية والحرية السياسية والرفاهية الاقتصادية.

الدعوة الى العولمة تدمر كل المبادئ والمثل والقيم في النفوس، وتربط الانسان في دوامة اقتصادية تلغي البناء الحضاري الانساني وتقضي على تميز الشعوب بأفكارها المتنوعة وتحولها الى قطعان بشرية تقاد بالفكر الواحد الدولي الذي لا صلة له بالأقاليم المختلفة، ولا علاقة له بالانسان ومعتقداته الذاتية والمكتسبة بحكم روابطه بالوطن، وانتماءاته الفكرية بالأرض ومن يشاركه في الحياة عليها. هذا الفساد الفكري الذي تدعو اليه العولمة يجد جذوره في الفكر الشيوعي، لأن كليهما، العولمة الآن والشيوعية بالأمس، تهدفان الى فرض سيطرة الفكر الواحد على العالم.. فعملت الشيوعية عند بداية تطبيقها في العقد الثاني من القرن الماضي، القرن العشرين، الى تحويل الناس الى مجرد تروس في الآلة الانتاجية، والغت الانسان وفكره واحتياجاته لتفرض، بالتكنولوجية التي تتوصل اليها بجهد الانسان الغائب عن الحياة الطبيعية، سيطرتها على العالم بالفكر الواحد الذي تؤمن به، وتدعو غيرها من الراغبين بالتعامل معها الى الالتزام به، وادى عدم الالتزام بهذا الفكر الواحد الذي تطرحه الشيوعية وتنادي به، من قبل غيرها الذين اقتربوا من الاتحاد السوفيتي لما في ذلك الفكر الواحد من ادران تمس العقيدة الدينية وتتطاول على الثقافة.. الى التلاعب بمصالح المرتبطين به من العرب تحت مظلة الانتماء الى الفكر التقدمي، واصدق مثل على ذلك خيانة الاتحاد السوفيتي للعرب التقدميين التي جسدتها هزيمتهم في حربهم مع اسرائيل سنة 1967.

محاولة تطبيق العولمة في العقد الأول من القرن الحالي الواحد والعشرين بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وانحسار الشيوعية في غيره من الدول تمثل تخطيطا دوليا يرمي إلى فرض الرأي الواحد، والغاء كل الآراء الأخرى حتى تتحول كل الدول الى مجرد دمى في العلاقات التجارية الدولية تحركها العولمة في الاتجاهات التي ترسخ تغييب الدول والشعوب، وتحقق قوة اقتصادية رهيبة تخضع العالم للفكر الواحد، يبقى من يلتزم به في ميدان اللعب التجاري الدولي بشروط قاسية تحوله من طرف الى تابع ومن مستقل الى خاضع، ويطرد من لا يلتزم بهذا الفكر الواحد من ميدان اللعب التجاري الدولي، ويتحول الى مجرد متفرج غير منتم للاعبين، وتفرض عليه الحياة البائسة حتى وان كانت عنده مصادر الثراء الذاتية لأن العالم سيمتنع عن التعامل معه باعتباره منبوذا من العولمة، لعدم انتمائه للفكر الدولي الواحد الذي يؤمن به صانعوه ويطالبون غيرهم بالالتزام به ان أرادوا الحياة والبقاء على المسرح الاقتصادي الدولي.

هذا الطرح للعولمة بصياغاتها وابعادها واهدافها جعل كثيرا من المفكرين في العالم بما في ذلك المفكرون الغربيون في أوروبا وأميركا يرون في العولمة شيوعية الرأسمالية ولم يطلقوا هذا الوصف اعتباطاً وانما وصلوا اليه من خلال الدليل الذي أوصلهم الى التشابه الكامل بين الشيوعية في الماضي والعولمة في الحاضر، فالشيوعية ارادت في الماضي ان تفرض فكراً واحداً على العالم، فشلت فيه لوقوف العالم ضدها، على الرغم من تجسيدها لهذا الفكر الواحد في موسكو بجبروته الداخلي وسطوته الدولية من لينين بالثورة البلشفية الى جورباتشوف بالاصلاح واعادة البناء.

العولمة تريد في الحاضر ان تفرض فكراً واحداً على العالم يتأرجح بين النجاح بالدعم الذي يحصل عليه من قبل صناع العولمة وعلى رأسهم الولايات المتحدة الاميركية الذين يضعون كل ثقلهم لفرض الرأي الواحد الذي جسدته الدعوة المطالبة للعالم بالحياة على انماط الحياة الغربية ليؤهلوا بهذه الحياة الغربية الى اكتساب الانتماء للعولمة من خلال التزامهم بالفكر الواحد، والفشل بوقوف شعوب الأرض بما فيها الشعب الغربي الذي مثله الشعب الاميركي في سياتل والشعب السويسري في دافوس ضد العولمة لرفضهم الخضوع للفكر الواحد الذي سيفرض عليهم استعماراً جديداً من قبل الشركات الكبرى المتعددة الجنسية التي تحظى بسلطة الأمر والنهي على المستوى الدولي.

نتفق تماماً مع أصحاب الرأي القائل بان السيادة التي تتمتع بها الدول المختلفة وتدلل على استقلالها ستنتقل منها عند تطبيق العولمة الى الشركات الكبرى المتعددة الجنسية وتغيب السيادة عن الدول يخرب التركيب العضوي للعالم فلن تكون هناك دول تتعامل مع بعضها البعض لأن هذه الدول ستصبح مجرد اقاليم خاضعة للقرارات التي تصدرها الشركات الكبرى المتعددة الجنسية بعد ان تحصل كامر واقع على سيادة كل الدول. والقول المضاد الصادر عن مؤيدي العولمة الذي يؤكد ان السيادة لن تنتقل بالكامل لتلك الشركات التي ستتمتع فقط بالسيادة في المجال الاقتصادي، ويدحض هذا القول الفهم العام للسيادة الذي يجعلها غير قابلة للتجزئة، بجانب الحقيقة الثابتة القائلة بان من يسيطر على الاقتصاد يسيطر على كل مناحي الحياة بما في ذلك الحياة السياسية.

نضيف الى هذا الخطر المتربص بالعالم والذي يحذر منه كثير من مفكري العالم ان هذه الشركات الكبرى المتعددة الجنسية خاضعة بحكم تكوينها الرأسمالي لليهود والصهاينة الذين يسيطرون على رؤوس الأموال في العالم الموظفة في هذه الشركات مما يستدعي وقوف الشعب العربي مع بقية الشعوب ضد العولمة.