فضاء الثقافة الرحمية

TT

سئلت ذات يوم قريب عن سر التعصب الذي أبديه احياناً لكتابات النساء، ومع اني لا أتعصب لتلك الكتابات في المطلق وأجد بعضها مثل الرحى التي تجرش طحيناً سبق طحنه، فقد اعتبرت السؤال مشروعاً، ويستحق التفكير العميق والإجابة التقريبية التي اتمنى ألا تُقرأ في سياق مديح النسوية بقدر ما ينظر إليها في مساق ذم العنجهية.

وأول ما يلفت النظر في الكتابات الأصيلة للنساء تلك الظاهرة التي يمكن ان نطلق عليها صفات مشتقة من انعكاس الثقافة الرحمية، وذاك الانعكاس كالرحم يتميز بالعمق والخصوبة ومثله أيضاً يظل مسربلاً بالأسرار والالغاز التي يصعب سبرها من قراءة واحدة لنص أية مبدعة حقيقية.

وبهذه الصفة وحدها تنجح الكتابة فكل نص ناجح ينتمي إلى المعنى الاحتمالي أي تجد فيه جديداً مع كل عودة إليه، وتختلف مضامينه ومؤثراته من شخص إلى آخر، فالظلال التي تحيط بالنص الاحتمالي تعطيه نكهات وألواناً مختلفة تعيده تلقائياً إلى الرحم، ففي ثقافتنا الشعبية يقولون «البطن بستان» وهم يعنون الرحم، وقدرته على الاتيان بكل الألوان.

واضافة إلى إحالات العمق والخصوبة والنعومة، فهناك فتنة الانشغال بالذات بالمعنى الإيجابي وليس الأناني، فكل انثى ـ كاتبة مشغولة بمفاتن نصها، وتعامله كما تعامل وجهها وجسدها أي تخضعه لعمليات تجميل مستمرة قبل ان تخرج به لمواجهة العالم، وهي صفة نعرفها أيضاً في المبدعين الكبار للعالم الذكوري، فبعضهم يمزق عشرات الصفحات في سبيل جملة أو جُميلة أنيقة منمنمة مهندمة ممكيجة، مبودرة ومعطرة تسحرك بمجرد ان تعبر أمام ناظريك أو يتشربها عقلك واحساسك بمتعة نادرة.

وهذه الصفة لن تجدها عند المبدعين المتوسطين والصغار، فهم مثل مطابع الحكومة ينشرون كل شيء من دليل الهاتف إلى الفواتير ويعنيهم الكم اكثر من الكيف لذا يموت أحدهم عن عشرات الكتب والدواوين التي تموت عادة قبله، والأمر ذاته يمكن ان يقال عن بعض النساء اللواتي لا يكتبن بالغريزة الأنثوية وشروطها ويحصل عندهن بعض أشكال التشوه المهني نتيجة لتقليد المنتج الإبداعي الذكوري.

وإلى ما سبق أضيف صفة القلق، فالانثى بطبعها قلقة لا تستقر على حال، وهي بذاك تظل أميل إلى السؤال وأبعد ما تكون عن الجواب، فمملكة اليقينيات لا تعنيها كثيراً، والأجوبة الجاهزة لا تريحها ولا تحل مشاكلها، وما نسميه «فضولاً انثوياً» يكون غالباً حالة إبداعية تؤمن بالمغامرة الجسورة والمعرفة الحرة وتصدر عن قلق ابداعي خففته الثقافة الذكورية السائدة، وجعلته مجرد فضول للشائعات وأخبار النميمة.

ان النص النسائي الحقيقي ـ جله وليس كله ـ يقدم نفسه ببساطة، واناقة ودون أي بهرجة زائدة، وهي صفة يستحسن بالذكور ان يتعلموها فالجعجعة لا تنتج بالضرورة طحيناً ناعماً حاراً، ورغاء الابل ليس كزقزقة البلابل، وهذه بديهيات يعرفها الرجل وينساها وتدركها الانثى بحدسها وغريزتها فتنعكس المعرفة على نصها، وكم من جمال هادئ يبهر دون أي ضجيج مقابل قبح تسبقه الدفوف والصنوج.

ان الانكفاء إلى الداخل، وإجادة الإصغاء إلى الاعماق، ووشوشات الذات والتعود على التعايش مع طراوة الروح والجسد يعطي النص الأنثوي تميزه، وعمقه وخصوبته فهل أجبت..؟ وهل في هذه المؤشرات المقترحة للكشف عن فضاء النص الأنثوي ما يكفي؟ أم نطمح بجواب مختلف من العارفات بعوالمهن ودوافعهن اكثر من معرفة المتطفلين على العوالم الخفية لمنتجات ومبدعات الثقافة الرحيمية...؟