الملك فهد خبير بالشؤون العربية خبرة لايجارى فيها يطول الحديث معه ولا يحس المرء بالوقت

TT

في الحلقة الاخيرة من حوارات «نصف قرن تحت مجهر السياسة» يتحدث عبد الهادي بوطالب عن تقييمه للسنة الاولى من حكم الملك محمد السادس. كما يرسم بورتريهات لملوك وأمراء ورؤساء عرفهم عن قرب والتقى بهم مرارا.

ويتحدث بوطالب ايضا عن روايته التاريخية «وزير غرناطة» التي تروي قصة الشاعر والوزير الاندلسي لسان الدين بن الخطيب مع بلاط بني الاحمر في الاندلس وبلاط بني مرين في فاس.

* هل تمارسون اليوم مهمة مستشار للملك محمد السادس؟ لأن البعض يقول ذلك؟

ـ هذا غير صحيح. أنا لا أمارس اليوم أي منصب رسمي في الدولة.

* لكن شاع خبر التحاقكم بمنصب مستشار الملك إثردفن الملك الحسن الثاني. والتقط الإعلام المغربي صورتكم وأنتم واقفون في مقدمة صف المستشارين بالقصر الملكي وسلمتم على الملك محمد السادس من موقع المستشار.

ـ نعم صدرت من جلالة الملك محمد السادس التفاتتان كريمتان: أولاهما ما أشرتَ إليه وتمت يوم الجمعة الأولى من بيعة جلالته فدعاني إلى الحضور للقصر الملكي لألتحق بمنصب مستشار جلالته، لكن يظهر أن جلالته لم يكن له علم آنذاك بأني تركت هذه الوظيفة في عهد والده، وأن ظهيراً (مرسوماً) قد صدر في الجريدة الرسمية بالمغرب ينص على «انتهاء مهمتي مستشارا لجلالة الملك الحسن الثاني». وكان يظن أني أنا الذي تركت ـ من تلقاء نفسي ـ المداومة بالديوان الملكي لأني كنت متأثرا بفعل الفجوة التي مررت بها وإنما أطلع على الحقيقة في ما بعد.

أما الالتفاتة الكريمة الثانية فقد جاءت منه أواخر أكتوبر (تشرين الأول) من هذه السنة (2000) (أي أثناء إجراء هذه الحوارات معك) عندما بعث إليَّ مدير ديوان جلالته السيد محمد رشدي الشرايبي بخبر يخبرني فيه بأن جلالته قرر أن أعود لشغل منصبي السابق مستشارا لجلالته، فشكرت لجلالته عطفه الكريم، لكني أعربت عن رغبتي في ألا أعود لشغل نفس المنصب الذي كنت فيه مع والده، وأنني لا أرغب في أن أكرر ما عملته. وأكدت له أني على استعداد لخدمة جلالته في منصب آخر يختاره، أو حتى من دون منصب ولا لقب ولا راتب.

* مرت أكثر من سنة على اعتلاء الملك محمد السادس عرش المغرب، فما هو تقييمك للسنة الأولى من حكمه؟

ـ الملك محمد السادس يقوم منذ اعتلائه العرش بحركة إصلاح شاملة يمضي فيها على مراحل. يخترق فيها الحصون المنيعة ويقوضها بضربة معلم. ولا أرى بكل موضوعية أنه ارتكب أي خطأ في ما فعل. وتميز حكمه بتنظيراته التحررية عن المفهوم الجديد للسلطة وبرده الاعتبار لكل من كانوا محرومين من الحرية أو منفيين عن المغرب. وتعاطف مع الطبقات المسحوقة وواسى وأعان. ورأيناه يواسي المعوقين ويحدب على الفقراء ويرد الاعتبار إلى المحرومين. وأذكر هنا على سبيل المثال رسالة الشيخ عبد السلام ياسين مرشد «جماعة العدل والإحسان» المحظورة الموجهة «إلى من يهمه الأمر»، فقد كانت رسالة لا يمكن لأي رئيس دولة في العالم الثالث أن يقبلها. إنها تضع النظام الملكي، لا أقول موضع التساؤل، بل أكثر من كلمة تساؤل، وتتحدث عن أشياء لا يسطرها قلم سياسي حكيم مسؤول. وكان جواب الملك محمد السادس هو التخلق بفضيلة «الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس»، وهذا نبل رفيع من جلالته كان فيه متزنا حكيما أعطى به الدليل على أن المغرب دخل تحت قيادته في عهد المزيد من الديمقراطية وسيادة العدل والحق. كما أعطى المثال من سلوكه النبيل على أنه لا يكتفي بالتنظير لنوع جديد من السلطة بل يمارسه ليقتدي به من دونه. ألاحظ بالابتهاج أن الملك محمد السادس يخطو على طريق الحداثة والتطور والديمقراطية خطوات رزينة متأنية ويعرف إلى أين يسير.

* عاصرتم وعايشتم ثلاثة ملوك هم محمد الخامس، والحسن الثاني، ومحمد السادس. فما هي نقاط التقارب والتباعد بين شخصية كل واحد منهم ؟

ـ لكل واحد شخصيته وأسلوبه الخاص. الملك محمد الخامس قضى حياته كلها في مقاومة الاستعمار والظلم. كان هيناً ليناً لا أعلم أنه كان قادرا على أن تصدر منه كلمة جارحة في حق أحد أو أنه اتخذ موقف إذاية ضد شخص أو أخل بكرامة إنسان. وكان يعرف أنه في حاجة إلى إحاطة نفسه بالرأي والنصح. ولم يكن يعتبر نفسه مستغنيا عن رأي الآخرين. ولو أردت أن أختصر في كلمة واحدة شخصيته لقلت لك عنه: «إنه كان يملك رأس الحكمة» ورأس الحكمة مخافة الله. ومحمد الخامس كان يخاف الله، يقيم شعائر الدين ويكرم العلماء والفقهاء والأشراف ويعظم الأساتذة ومن لهم باع في الفكر والإبداع. وقد ترك مدرسته الخاصة التي تتميز بالرصانة والتعقل وعدم الإقدام على اتخاذ القرارات قبل نضجها وإنضاجها. في هذه النقطة ربما أجد أن الملك محمد السادس أخذ من جده هذا السلوك الحكيم.

أما الملك الحسن الثاني فكان رجل الوسط. كان ليِّـنا حين يريد وحازما قويا حين يقرر. كان لا يتساهل في أن يلاحظ على أحد من مواطنيه الذين يُعرَفون باسم «رعايا جلالة الملك» إخلاله بواجبات التوقير والاحترام لشخصه، لم يكن يقبل ذلك ولا يلتمس لأحد أي عذر في ذلك. هو رجل حازم لكنه كلما اتخذ قرارا حازما في حق أحد إلا ويبدأ في التفكير في المرحلة اللاحقة، أي كيف يخفف من وقع هذا القرار وكيف يطوي صفحته بقرار آخر لصالح المعني بالأمر. هكذا تعارك مع القادة الوطنيين وذهبوا إلى السجون. ولكن حين كانوا بالسجون كان يسارع إلى وضعهم في «فيلات» محترمة ويبعث إليهم بموائد الأكل من القصر الملكي وجميع ما يرغبون في اقتنائه من كتب وصحف وغيرها.

ولو أردت أن أكتب عن الملك الحسن الثاني بأسلوب روائي لقلت «إنه كلما ضرب بلطمة على خد أحد إلا ومسح إثر ذلك بكفه في رفق الخد الذي ضربه». كان رحمه الله مقتنعا بأن عامة الشعب متعلقة به ووفية لشخصه، إلا أنه عندما تكون البلاد في أزمة سياسية فإنه يفضل استعمال الحزم، وبعد ذلك يُعقِب الشدةَ بالرخاء. وقد سبق أن قدمت لك صورة موضوعية عن جلالة الملك محمد السادس كما أتصورها وأعتقد أن الجميع يتفق على الإعجاب بها.

هذه مفارقات وملتقيات بين الملوك الثلاثة أجملتها، وأعتقد أن الحديث عن شخصية كل واحد منهم يقتضي كتابا متعدد الفصول.

* لاحظت في بيتك وجود متحف بديع عرضتَ فيه صورا لك مع ملوك ورؤساء وأمراء وشيوخ وساسة كبار. فهل لك أن تعطيني عن بعضهم ـ في لقطات سريعة ـ ذكرياتك أو ارتساماتك؟

ـ الصور التي التُقطت لي مع ملوك ورؤساء وأمراء وقادة الدول الذين تعرفت عليهم عبر العالم وجالستهم وحاورتهم تتجاوز الخمسين صورة مع مختلف القيادات السياسية والفكرية. وقد أخذت أكتب ارتساماتي عنهم في مشروع كتاب بعنوان: «مع القمم رأسا لرأس : صورة وحدث» وما هو معروض أمامك إنما هو جزء من هذه الصور التاريخية.

* صورتكم مع الملك فهد بن عبد العزيز؟

ـ تجاوزت لقاءاتي بالملك فهد بن عبد العزيز العشرة. وفدت عليه في أغلبها مبعوثا من الملك الحسن الثاني، واستقبلني مرتين وأنا على رأس «الإيسيسكو» في الثمانينات من القرن الماضي.

ومنذ أن خلَف الملكُ فهد أخاه الملك خالد ركز شعبية الملكية السعودية التي تلتحم بمواطنيها التحاما عضويا من دون كبرياء ولا استعلاء، وتفتح أبواب قصورها لعامة الشعب للتقدم إلى الملك والأمراء بشكاواهم وتظلماتهم، ويجلس فيها أحيانا على مائدة الملك أو الأمير المفتوحة للضيوف الوزيرُ وسائقُ سيارته في صف واحد. كما حضرت ذلك عند الملك خالد عندما استقبلني في منطقة القنص استقبالا عفويا لا كلفة فيه.

والملك فهد خبير بالشؤون العربية خبرة لا يُجارَى فيها، متعمق في تحليل الأحداث السياسية والنفوذ إلى أعماقها. يطول حديثك معه ولا تحس بمرور الوقت لما فيه من إمتاع وفائدة. يشدك إليه بتواضعه ودماثة خلقه. ومن تواضعه أنه أسقط لقب «صاحب الجلالة» وأطلق عليه اسم «خادم الحرمين الشريفين».

* وأنتم هنا مع الأمير عبد الله ولي عهد المملكة العربية السعودية ؟

ـ توثقت صلتي به منذ انتخابي مديرا عاما لـ«الإيسيسكو» سنة 1982 ونسجنا خيوط هذه الصلة منذ أن زرت المملكة في عهد أخيه الملك خالد. وكان هو الرقم الثالث في الدولة بعد ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز، ثم بعد أن أصبح وليا للعهد والملك فهد خادم الحرمين الشريفين. وكلما كان يحضر للدار البيضاء زائرا عابرا أو مقيما في رحلة استجمام كان يدعوني للقائه واستضافتي بمقر إقامته. إنه أمير شعبي قريب إلى الجماهير ومتعاطف مع أحاسيسها. صريح في مواقفه. وقد تجلى هذا أخيرا في مؤتمري القمة: العربية التي انعقدت بالقاهرة والإسلامية بالدوحة. سألني مرة وأنا مدير عام «الإيسيسكو»: «كم عمرة أدَّيتَ؟» فقلت له: «إنها تتجاوز الثلاثين (وكان ذلك مبلغ عددها في ذلك الوقت وقد بلغت إلى هذا التاريخ 49 وشكرا لله على ذلك) وقال: «ولماذا لـمْ تحجَّ حتى الآن»؟ فقلت له: «أقول لأولادي إني أرغب في أن أقوم بأداء حجة لا زحمة فيها وما أعتقد أن ذلك ممكن»، فبادر ليعرض علي أن يستضيفني لأداء حج لا زحمة فيه». وضحكت. وقال: «تعال هذه السنة. وسأؤمن لك الحج كما ترغب فيه».

وفعلا أمَّن لي سموه ـ أثابه الله أنا وزوجتي ومرافق لي ـ حجاً لم ألق فيه تعبا ولا مشقة. استضافنا في قصر الضيافة بجدة، وقصر الضيافة بمنى. وخصص لي بعرفات خيمة تتسع لإيواء عشرة أشخاص. وكنت أرافق طول فترة الحج موكب الرئيس ياسر عرفات، والرئيس الغيني الراحل أحمد سيكوتوري، ونتحرك ـ ثلاثتنا ـ في وقت واحد وسياراتنا مخفورة بالأمن. وأذكر أننا قطعنا المسافة بين مِنىً وعرفات خلال 20 دقيقة بينما الطريق مخنوق بالحجاج الراكبين والمشاة.

لقد صدق الأمير وعده فقد أديت فريضة الحج بلا زحمة ولا مشقة. أثاب الله سموه على ما فعل.

* وصورتكم مع الأمبراطور «هيلاسيلاسي»؟

ـ الامبراطور هو ملك الملوك كما كان يُسمَّى. كان على رأس امبراطورية اثيوبيا التي كانت في الأصل مملكة الحبشة، وكان ملكها يعرف بالنجاشي الذي يعني ملك الملوك. ويقال إنه كانت تمتد على طول مملكته أبراج متقاربة ينقل حراسها بواسطة أبواق إلى ملوك العالم أخباره ويُصدرون إليهم تعاليمه في شكل رسائل غير مكتوبة بل «منفوخة». وفي طليعة ما كان يُنفَخ في الأبواق كل صباح صيحةٌ موجَّهة إلى ملوك العالم تقول: «أيها الملوك إن ملك الملوك قد أفاق من نومه فاستيقظوا. وإن ملك الملوك يتناول طعام فُطوره وقد أذن لكم أن تُفطروا فأفطروا».

اعتلى عرش الامبراطورية الاثيوبية سنة 1930 واسمه «تافَـري» الذي يعني «المُخيف المُرعب». ولقبه الامبراطوري هو هيلاسيلاسي الذي يعني «قوة الأزلية». كان عرشه امتدادا لعرش سليمان وبلقيس ملكة سبأ. والقصر الامبراطوري ظل مغطَّى بستائر سميكة من الأساطير والرموز والمعمَّيات.

وترجع صورتي مع آخر الأباطرة الأسطوريين إلى تاريخ شهر سبتمبر( ايلول) 1970 وأنا وزير الخارجية. وكنت ذهبت إلى أديس أبابا نائبا عن الملك الحسن الثاني لحضور القمة الأفريقية التي احتضنها الامبراطور فاستقبلني بقصره وبلغته اعتذار الملك الحسن الثاني عن حضور القمة واستعرضنا جدول أعمالها وتحدثنا عن طموحات أفريقيا لتحقيق وحدتها.

وصلت إلى مكتب الامبراطور وأنا أتحسس في كل خطوة مواقع قدمَيَّ. فقد قيل لي إن فهدين يجثمان على جانبي مدخل مكتبه يتخوف منهما الوافدون على الامبراطور. وفعلا سلكت طريقي إليه بين الوحشين المربوطين بسلسلة من حديد إلى ساريتين من المرمر اللامع. وبدا لي أنهما أصبحا من الوحوش الأليفة لكنهما كانا يتحركان ويصرخان.

ثم استقبلني مرة ثانية أثناء انعقاد قمة دول عدم الانحياز بلوساكا حيث كان أنابني عنه الملك الحسن الثاني أيضا لتمثيله بالقمة.

* وصورتكم مع الجنرال فرانكو رئيس دولة اسبانيا؟

ـ استقبلني الجنرال عندما لبيت دعوة زميلي الإسباني «فْرَاغا إرِيـبارني» وكان وزير الأنباء والسياحة وأنا وزير الأنباء (الاعلام). وكانت زيارة رسمية ـ كما يقال ـ أدمج في برنامجها استقبالي من لدن رئيس الدولة وتم ذلك في اليوم 27 مايو (أيار) عام 1963 وكان الدكتور أحمد العراقي هو سفير المغرب بمدريد.

كان الجنرال فرانكو يعـتِب على المغرب توحيد المنطقة الشمالية المغربية داخل المغرب المستقل الذي تـمَّ بإلحاق الضرر بالحضور المدني الاسباني ولم تراعَ فيه خصوصية المنطقة التي كانت متأثرة بالثقافة الإسبانية، فأُدمجت في المنطقة الجنوبية المتأثرة بالثقافة الفرنسية ومُحيت معالم الحضور الفكري الاسباني. وأثرت مع الجنرال طموح المغرب إلى استكمال وحدته الترابية بإرجاع إسبانيا إليه صحراءه.

* وأنتم هنا مع السلطان قابوس ؟

ـ تعرفت على السلطان قابوس بن سعيد ملك سلطنة عُمان وأنا سفير للمغرب لدى الولايات المتحدة عندما زارها زيارة رسمية. واجتمعت به وتحدث لي عن ثورته الإصلاحية منذ أن أخذ مقاليد السلطة في يوليوز (تموز) 1970، فكان الرابع عشر بين سلاطين وأئمة عُمان من أسرة آل بوسعيد وغير اسم السلطنة من «سلطنة مسقط وعُمان» إلى «سلطنة عُمان» فحسب.

ثم وفدت عليه وأنا مستشار للملك الحسن الثاني في مهمة تبادل جلالته الرأي والتنسيق مع السلطان حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وتطورات القضية الفلسطينية، والعلاقات الثنائية بين البلدين.

وعظمة السلطان واسع الثقافة مزدوج اللغة ويمتلك قدرة إقناع مخاطبه بما يفكر فيه. طلب مني مرة أن أنقل إلى جلالة الملك الحسن الثاني رغبته في أن يفكر ملك المغرب في إقامة محور ثلاثي سلمي بين الملك السعودي، والملك المغربي وسلطان عُمان بسبب جوامع الملَكيات الثلاث.

قام بثورة هادئة غير بها معالم السلطنة وأدخلها في عصر الحداثة والتطور. وكنت قد زرت «سلطنة مسقط وعمان» قبل أن يعتلي السلطان العرش فوجدتها في حالة تخلف مشين لا تتوفر على بنيات أساسية ثم زرتها عندما وفدت عليه فلم أجد للعهد القديم أثرا ولا خبرا. كل شيء تغير: المعالم والإنسان. واليوم للمرأة مقعدها النيابي في مجلس الشورى العُماني والسلطنة تبدو في تقدمها أشبه بواحدة من الولايات الخمسين الأميركية.

* وهنا مع الجنرال ضياء الحق ؟

ـ توثقت به صلاتي وأنا على رأس «الإيسيسكو» مديرا عاما في الثمانينات. كان الجنرال متحمسا للعمل الإسلامي ولتوسيع اختصاصات منظمة المؤتمر الإسلامي. وكان يشجع ويدعم المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة. وكانت باكستان ـ وما تزال ـ ترأس اللجنة الدائمة للعلوم والتكنولوجيا التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي. وكانت طول فترة حكمها نشيطة في ممارسة رئاستها. وكنت أحضر دورات اجتماع اللجنة بإسلام أباد وكل مرة كان لا ينقطع عن التنويه بشخصي وبالعمل الذي كنت أقوم به على رأس «الإيسيسكو».

انعقد في ضيافته المؤتمر العام لـ«الإيسيسكو» ورعاه بعنايته. وكان الاجتماع محطة كبرى على نهج تطور المنظمة وشقها طريقها الذي كان محفوفا بالأشواك.

شارك في قمة المؤتمر الإسلامي التي انعقدت بالدار البيضاء تحت رئاسة الملك الحسن الثاني وارتجل بالإنجليزية خطابا تميز باحتوائه على اقتراحات لتطوير عمل المنظمة. وحضرت هذا المؤتمر بوصفي مديرا عاما لـ«الإيسيسكو» فأشاد بالمنظمة. وقال إنها اللبنة الأساسية في صرح التضامن الإسلامي. وكان يؤمن بأن بداية هذا التضامن هي وحدة الفكر الإسلامي.

* كثيرة هي الصور التي تتألف منها هذه المجموعة ولا يتسع المجال للسؤال عنها فلأختم بصورتكم مع الشيخ زايد بن سلطان . ـ الشيخ زايد بن سلطان أمير دولة الإمارات العربية المتحدة. علم شامخ بين أمراء دول الخليج. وفدت عليه مرارا كمدير عام لـ«الإيسيسكو»، أو كمستشار للملك الحسن الثاني ومبعوث خاص في مهمات مختلفة.

وهو رجل الحكمة. ويقال عنه إنه من حكماء العرب. ذو تجربة غنية أغنتها الممارسة عبر السنين. يلذ لك الإنصات إليه، وهو يفضي إليك بالحديث عن تجاربه مع السياسة العربية التي مرت بها المنطقة العربية وعن معاركه الإصلاحية للنهوض بالإمارات التي يرجع له الفضل في تطويرها وتقدمها، فالدولة الفيدرالية التي يوجد على رأسها كانت من صنعه ونتيجة مثابرته ومكابدته وسخائه.

وفي عبارات، بسيطة في شكلها، عميقة في جوهرها، يختصر الشيخ زايد لسامعه أفكاره عن النظام العربي بإيجابياته وسلبياته، ويقدم عن إصلاحه وتقويمه مخططا مدروسا بعناية. له حس سياسي مُرهَف يجعله يسبق الأحداث، ويحسن التوقعات. وموقفه المتميز من العراق الذي لا يبرئ العراق من ذنب غزوه الكويت وينفتح مع ذلك على المستقبل شاهد على ذلك.

* أود أن أسألك عن روايتك التاريخية «وزير غرناطة» التي تحكي سيرة ذي الوزارتين الشاعر لسان الدين بن الخطيب. ما هي ظروف وملابسات تأليفها؟ هل كتبتَها وأنت في معترك المسؤولية السياسية الحكومية أم خارجها؟ ـ كتبتُها والمغرب يرزح تحت الاحتلال الأجنبي ولا يحكم نفسَه. ولم يكن يخطر ببالي لهذا السبب ان يكون لي شأن في السياسة الحكومية المغربية. كتبتُ هذه الرواية سنة 1952، وكانت أول كتاب أصدرته وأنا مقيم بالقاهرة أيام الأزمة المغربية مع الحماية الفرنسية. وسبب كتابها يعود إلى عزمي إصدار سلسلة روايات على غرار روايات «جورجي زيدان» مثل «العباسة أخت الرشيد» و«نكبة البرامكة». وأثناء وجودي في مصر درست في دار الاغتراب السياسي حياة ابن الخطيب ووجدت فيها مأساة وملحمة وقصة يمكن أن تكون باكورة أو مقدمة للسلسلة التي كنت أعتزم إصدارها عن تاريخ الأعلام، خاصة في تاريخ الأندلس والمغرب. (كان مشروع الكتاب الموالي عن ابن خلدون). وكتبت قصة ابن الخطيب وقدمها الأستاذ محمد سعيد العريان. وكنت آنذاك مداوما على قراءة مجلة «الرسالة» التي كان يصدرها أحمد حسن الزيات ويكتب فيها عباس محمود العقاد وطه حسين ومصطفى صادق الرافعي وأحمد أمين وآخرون. وكنت متأثرا بأسلوب الرافعي فبادرت بعد أن أعددت كتاب «وزير غرناطة» إلى الاتصال بتلميذه محمد سعيد العريان الذي تفضل فكتب مقدمة الكتاب.

وكنت قبل أن أكتب «وزير غرناطة» وأنا في جامعة القرويين أحفظ الشعر الجاهلي، وخاصة المعلقات عن ظهر قلب، وأسبح في رحاب الأدب العربي وتاريخه وأعلامه من كتاب وشعراء. وعندما اتصلت بمحمد سعيد العريان الذي قرأ الرواية قال لي: «أراك متأثرا بمدرستي فأنا تلميذ محمد صادق الرافعي». فقلت: «أنا أيضا تلميذه لا عن قرب ولا بالمراسلة ولكن عن طريق «الرسالة»».

قصة «وزير غرناطة» لم تكن من وحي الخيال، بل درست حياة ابن الخطيب من مصادرها التاريخية. والكتاب تلخيص جامع ومختصر لحياة ابن الخطيب بما اعتراها من تقلبات المد والجزر، سلطت عليه الأضواء وتقيدت في الحوار الجاري بين أبطالها بالحقيقة التاريخية مما جعل الخيال يتناغم مع الحقيقة. وكنت أرجع إلى كتب ابن الخطيب التي تصل إلى ثمانين كتابا. وكنت معجَبا به وما أزال. ومن حياته كونت لنفسي رؤية عن اتجاه الحكم المشخَّص الفردي كيف يتصرف وكيف يعامل الناس؟ فهذا الرجل الذي أعطى كل ما يملك في خدمة القصور وصل إلى أعلى المراتب ثم نزل بفعل دسائس القصور المحبوكة إلى هوة التردي. كانت حياته مأساة مروعة. عاش حياة السلطة بما فيها من شفوف وشهرة وعلو في الرتبة وفوائد الحكم. ثم عاش حياة التعاسة التي انتهت به إلى موت فظيع. كان ابن الخطيب بالنسبة لي مجرد نموذج أو مثال قدمته بين يدي القراء عن تصرف الحكم المطلق في مصير ذي الوزارتين: وزارة القلم ووزارة السلطة. وحل هذا الرجل في نفسي وسكنها وأصبحت متعاطفا مع مأساته متألما لها.

* طيب، خلال عملك إلى جانب الحكم ألم تكن تعود إلى هذه الرواية لتأخذ العِبَر؟ ألم يكن هناك إسقاط لسيرتك على سيرة ابن الخطيب أو العكس؟

ـ أصدقك القول إنني لم أعد إلى قراءة هذا الكتاب رغم أنه طُبع خمس طبعات في القاهرة والمغرب، لكن الغريب هو أن السؤال الذي تطرحه علي سبق أن طُرِح عليَّ من عدد من الأصدقاء الذين قرأوا «وزير غرناطة» وكانوا يعتقدون أنني كتبته بعد أن مارست الحكم، وأنني كنت أتحدث فيه عن نفسي. والحقيقة أنه لم تكن لديَّ سنة 1952 أية توقعات بأنه سيصبح لي شأن في بلدي، ولم يخطر في بالي أن بلادي ستستقل وأني سأصبح وزيرا في حكومتها الأولى وأنني سأَتسلَّق درجات الحكم بالوتيرة التي سرت عليها. إذن لم يكن لي أي تصميم ولا أية إرادة لأكتب عن «عبد الهادي بوطالب» بالاسم المستعار «ابن الخطيب».

* لقد كانت نهاية ابن الخطيب مأساوية، فالرجل قتله الرَّعاع خنقا وأُحرِقت جثته بعد أن غضبت عليه الدولة المرينية، وبعد أن قطع شعرة معاوية مع دولة بني الأحمر في الأندلس، في حين خرجتَ أنت من الحكم سليما معافى؟

ـ الحمد لله على ذلك، لأن الحكم في بلادي ليس من نوع حكم بني مرين في فاس وبني الأحمر في غرناطة ولا تصح المقارنة في ذلك. أنا عاشرت ثلاثة ملوك ولم تكن بيني وبين أي واحد منهم العلاقة المأساوية التي مر بها ابن الخطيب. وحتى بالنسبة لعلاقتي مع الملك الحسن الثاني لم تتعد جفوتُها طبيعة سوء تفاهم مَـرَّ سريعا وطوى الملكُ الحسن الثاني نفسُه صفحته قبل وفاته وعادت علاقتنا إلى صفائها. كنت أعمل معه بالحكمة القائلة: «قل كلمتك وامش». وكنت أقول لا الكلمة التي تساعدني على البقاء حيث أنا، ولكن التي يمكن أن تسبب لي الابتعاد عما كنت فيه. وكنت أتحمل مسؤوليتي في ما أعمل وأقول غير نادم ولا آسف.

* أنت الأديب والصحافي والوزير والدبلوماسي والمستشار تُجسِّد ظاهرة متميزة في ما يسمى «علاقة المثقف والسلطة»، فكيف تنظر إلى العلاقة المستقبلية التي ينبغي أن تكون بين المثقف والحاكم أو بالأحرى مع السلطة؟

ـ العلاقة التي يجب أن تكون بين المثقف والحاكم في نظام ديمقراطي سليم هي تبادل الاحترام بين سلطة الفكر وسلطة الحكم. طبعا لم أقل تكافؤهما أو تماثلهما، فلكل منهما سلطته في مجاله الخاص، لكن إذا تجاوز المثقف حدود سلطته الفكرية المتمثلة في الإرشاد والتوجيه والنصح، وإعطاء الحلول للمشاكل، وتقديم البديل للسياسة، والبحث عن الأفضل في السياسة المثلى إذا تجاوز هذا إلى حد تحدي سلطة الحكم، فهنا يتجاوز المثقف حده. وإذا أصبح الحكم يتضايق من سلطة المثقف ويخنقها أو يقمعها يكون الحكم بدوره قد تجاوز حده. وكان العلماء القُدامى يخافون من سلطة الحكم أن تحولهم إلى حكام لا يخشون ربهم ولا يحققون لشعبهم تطلعاته أو ينحدر بهم حب السلطة إلى الانحراف فكانوا يتهربون من المسؤولية.

وتحدَّث التاريخ المغربي عن رجال عرضت عليهم مناصب القضاء فلم يقبلوا تحمل المسؤولية ولجأوا إلى ضريح مولاي إدريس (مؤسس دولة الأدارسة والملكية في المغرب) بفاس. ومعروف أن من يلجأ إلى ضريح مولاي إدريس يتحصن من متابعة السلطة وملاحقتها ولا يملك الحكم اختراق حصانته أو القبض عليه وهو لاجئ. كانوا يشخصون سلطة العلم في النزاهة والعمل الصالح. ويقولون عن السلطة انها تُعمي وتُصم وانها اختبار من الله للمسؤولين عن السلطة من عباده. الملوك أيضا كانوا يخافون ويخشون على أنفسهم من سوء استعمال السلطة. والملك الصالح يتضرع يوميا إلى الله راجيا منه الصفح عما قد يكون أساء فيه. فالمسؤولية تكليف صعب وليست تشريفا ومنافع واستغلالا للنفوذ. لأجل ذلك أعتقد أن السلطة التي مارست جزءا منها كانت عندي نسبية، بينما ثقافتي كانت أقوى منها، فسلطتي لم أتصرف فيها من موقع التسلُّط، وقد سبق أن قلتُ لك إنني لم أعمل في وظيفة كنت فيها حاكما أتصرف في رقاب الناس. وأحمد الله الذي أبعدني عن هذا الميدان حتى خرجت من جانب الحكم سليما مثلما دخلته سليما.

* وإذا سألتك عمن يشبهك في التاريخ العربي والإسلامي من المقرَّبين إلى الأُسَر الحاكمة فماذا تقول؟

ـ لم أفكر قط في أنه قد يُطرح علي هذا السؤال. ولا يمكنني أن أقول إنه يشبهني فلان أو فلان. أنا أعرف نفسي لكني لا أعرف الآخرين. وصعب علي أن أُصدر في حقهم وعلى نفسي شهادة بأن أحدا منهم يشبهني أو أُشبهه. قد تتساءل: «هل أعني بذلك أني نموذج وحيد، أو نسيج وحده كما يقول الأدباء. لا، معاذ الله. هناك نماذج أفضل وأحسن مني. ولا يخلو أي بلد ولا أي عصر من رجال نزهاء حكماء تَهديهم البصائر ولا تُضلُّهم الأبصار»، وإنما الذي أريد أن أذكِّر به هو أني تربيت في بيئة دينية ملتزمة بالفضيلة. كان بعض أجدادي في مقام من يسمون «الرجال الصالحين» شاهدتهم بمدينة فاس وأنا صغير يتوجهون إلى القبلة، داعين دائما بالخير للناس. وكان الناس يلقونهم في الشوارع فيَتلمَّسون فيهم البركات، ويسألونهم الدعاء لهم بالهداية والصلاح. وهذا أثر في حياتي. وإذا كنت قد قمت بسيئات خفيفة في حياتي لا يُفلت من أوزارها إلا من رحم ربك فهذا استثناء، أما القاعدة التي أعود إليها دائما فهي تخلقي بأخلاق الدين الإسلامي التي تحرم الغش والنفاق والمداهنة والتملق، وترفَع من تولى المسؤوليةَ الدنيوية عن الانبطاح على كراسي الحكم والعمل على الخلود فيها مهما كانت الوسيلة. وأنا حين أقول هذا لا أبرئ نفسي من أن أكون قد مررت في بعض فترات حياتي بنوع من هذا الانزلاق، لكنني لم أغرق فيه من أخمص قدمي إلى قمة رأسي».

* إذا طلبتُ منك بعد تجربتك الطويلة في العمل السياسي أن تسدي النصيحة لأعضاء حاشية الملك، فماذا تقول لهم؟ ـ أقول لهم ما يدعو به خطيب صلاة الجمعة في المسجد الذي أصلي فيه بالدار البيضاء. فهو: يدعو للملك محمد السادس قائلا: «اللهم انصر عبدك الخاضع لجلالك، الملك محمد السادس. اللهم انصره وأيده، وأعزَّه. اللهم ارزقه الحاشية الناصحة، والبطانة الصالحة».

* تبدو في تجربتك الغنية والمتنوعة في عالم السياسة والثقافة وكأنها نوع من البحث عن الذات، فهل وجدتَ نفسك بعد نصف قرن في معترك السياسة والفكر؟

ـ ما أظن أن الأمر كان يتعلق ببحث عن الذات. أنا أعرف نفسي حق المعرفة. وأدرك أني نوعت نشاطاتي واتجاهاتي ومسؤولياتي وتعددت أمامي الطرق، ولم تضق بي المسالك. وأعي أن من الحكمة أن أضع خلف ظهري كل ما قمت به في نصف قرن من حياتي وأن أفسح المجال للشباب والجيل الصاعد ليتحملوا المسؤولية مثلما تحملتها وأنا في عنفوان شبابي. ورغم تقدمي في السن ما أزال أستشرف المستقبل لأستمر في العطاء الفكري ما وسعني الجهد وطال العمر. وكم أنا سعيد بالفرصة التي أتاحتها لي «الشرق الأوسط» لوضع «نصف قرن تحت مجهر السياسة» ولاختيارها الحوار مع القراء بواسطتكم السيد حاتم البطيوي فشكرا لكم على معاناتكم وصبركم. وأعتقد أني كنت في حواري معكم لا أتدخل في نوعية الأسئلة ولو المستفزَّة منها وكنت في جميع حواراتي معكم أطرح بوضوح وشفافية حقيقة ذاتي ولم أكن أبحث عن الذات.

* شكرا لكم معالي الأستاذ الدكتور عبد الهادي بوطالب.