بانتظار نتائج الانتخابات الإسرائيلية: عملية السلام في ثلاجة ساخنة

TT

ليست الولايات المتحدة الاميركية بدولة من العالم الثالث كي يكون لرئيسها القدرة او الحق او الصلاحية لرسم سياسة الدولة وتنفيذها واتخاذ القرارات بمفرده، صحيح ان الدستور في الانظمة الرئاسية يمنح رئيس الدولة صلاحيات اوسع من تلك التي له في الانظمة البرلمانية، لكن سياسة الولايات المتحدة انما يشارك الرئيس في رسمها وتقريرها ومراقبتها، الكونغرس والادارة الاميركية ودوائر المخابرات، ولا ننسى وسائل الاعلام والجامعات والمؤسسات الاقتصادية والدينية والمهنية. ومن هنا فإن تركيز المراقبين والمحللين على شخصية الرئيس الاميركي الذي غادر البيت الابيض لتقييم السياسة التي اتبعها، لا سيما الخارجية او على شخصية الرئيس الجديد لاستكشاف السياسة التي سوف يتبعها، يبقى مبتسرا للحقائق ومظهرا من مظاهر التمنيات والمخاوف اكثر منه تعبيرا عن الواقع، إلا انه من الضروري من الزاوية العربية اجراء تقييم موضوعي للسياسة «العربية» الاميركية في عهد الرئيس كلينتون، ودورها ومواقفها بالنسبة لعملية السلام بين العرب واسرائيل، لا سيما ان هناك مسافة شاسعة بين التقييم العربي، عموما، لهذه السياسة وتقييم الرئيس كلينتون ومعاونيه لها. فكثيرون هم بين المسؤولين والمراقبين العرب الذين يتهمون الرئيس الاميركي باحاطة نفسه بفريق عمل ومستشارين يهود مما ادى الى انحياز سياسته في الشرق الاوسط وفي عملية السلام الى الجانب الاسرائيلي وابتعاده عن مبادئ مؤتمر مدريد ومقررات الامم المتحدة، لكن كثيرين هم في الولايات المتحدة والغرب بين السياسيين والمحللين، الذين يقولون بأن ما توصل الرئيس كلينتون الى اقناع الحكومة الاسرائيلية بقبوله بشأن القدس والمستوطنات والدولة الفلسطينية واللاجئين (مشروعه الاخير)، هو انجاز كبير لم يكن بالامكان تصوره منذ سنة او سنتين، اذ يحقق ثمانين او تسعين في المائة من مطالب الفلسطينيين، وبدون ان يغلق الباب في وجه تحقيق ما تبقى من الحقوق الفلسطينية والعربية. فأين هي الحقيقة؟ هل هي في ثلاثة ارباع الجزء الممتلئ بحقوق الفلسطينيين من الكأس؟ ام في الربع الناقص منها؟ ان الرئيس الاميركي وادارته لم يخفيا معارضتهما لوصول نتنياهو والليكود الى الحكم في اسرائيل ولا لعودته اليه، ولم يخصص رئيس اميركي قبل كلينتون ما خصصه هو لعملية السلام حتى قيل ان وزيري الخارجية في عهده كريستوفر واولبرايت امضيا في الشرق الاوسط اياما اكثر من الايام التي امضياها في واشنطن. صحيح ان الادارة الاميركية في عهدي كلينتون لم تمارس على اسرائيل ضغطا كافيا لارغامها على الانسحاب من الاراضي العربية والاعتراف بكل حقوق الفلسطينيين المشروعة، لكنه صحيح، ايضا، ان البيت الابيض والادارة الاميركية لم يفتحا يوما ابوابهما امام الرئيس عرفات وممثلي السلطة الفلسطينية كما فتحت في السنوات الاخيرة. وان الولايات المتحدة لم تكن تنظر فقط الى مصلحة اسرائيل، في ما كانت تقدمه من اقتراحات او تقوم به من مساع.

ولكن سواء كان تقييم سياسة واشنطن العربية ومواقفها من عملية السلام سلبيا ام ايجابيا فإن هذا التقييم ملك للتاريخ، والمهم اليوم هو استكشاف معالم واتجاهات السياسة الاميركية في عهد الرئيس الجديد والادارة الجديدة.

ان الرئيس بوش لن ينطلق في درس ورسم السياسة الجديدة من فراغ، بل من المشروع الاميركي الاخير للسلام الذي قدمه سلفه للفريقين الفلسطيني والاسرائيلي، والذي لم يرفضه أي منهما، وان صدرت تحفظات على بعض نقاطه وطلب توضيحات عن البعض الآخر. ولكن قبل فتح ملف عملية السلام على مكاتب البيت الابيض هناك نتائج الانتخابات الاسرائيلية التي لا بد من انتظارها قبل القيام بأي خطوة، وفي اي اتجاه. فبقاء باراك في الحكم له معان ونتائج مختلفة عن وصول شارون الى رئاسة الحكومة. وتأليف حكومة يمينية او يسارية او ائتلافية، تترتب عنه نتائج واستعدادات متباينة بالنسبة لعملية السلام. كما ان تطور العلاقات بين دول المنطقة وبينها وبين الولايات المتحدة يشكل عاملا مهما في بلورة الموقف الاميركي من عملية السلام، وعلى وجه التحديد قضية العراق والعلاقات الاميركية الايرانية واسعار النفط وقضية الارهاب.

لقد استبشرت اوساط عربية عدة بخروج المستشارين والمعاونين «اليهود» من البيت الابيض ووزارة الخارجية، كما رحبت هذه الاوساط بوصول شيني وباول وفريق حرب الخليج الى الحكم مع الرئيس بوش الابن، لكن الاوساط المطلعة في واشنطن لا تشارك الاوساط العربية تفاؤلها، وان كانت من ناحية أخرى ترى في الفريق الجديد الحاكم او المحيط بالبيت الابيض عقلية او استعدادا لمقاربة القضايا الخارجية لا سيما قضية السلام في الشرق الاوسط، يختلفان عن عقلية فريق الرئيس كلينتون واستعداده، وان كان هذا لا يعني حكما «التكشير» في وجه اسرائىل او «مسايرة» العرب والفلسطينيين اكثر مما سايرهم كلينتون وفريقه، بل قد يقود الى تصلب اميركي بوجه الطرفين او الى تراجع في دور الوسيط او الشريك في عملية السلام. ومن الواضح او الاكيد ان الرئيس بوش الابن ليس حريصا كما كان الرئيس كلينتون على اضافة لقب «بطل السلام في الشرق الاوسط» الى سجله التاريخي بمقدار ما قد يكون همه النجاح في السياسة الداخلية والاقتصادية تمهيدا لانتخابات الرئاسة الاميركية المقبلة.

ان الموقف المنطقي المنتظر من الادارة الاميركية الجديدة هو ابلاغ الطرفين الفلسطيني ـ العربي والاسرائيلي بأن نجاح عملية السلام رهن بارادتهما واتفاقهما وليس بوساطة او شراكة الولايات المتحدة. ولقد كان هذا موقف الرئيس كلينتون وادارته المبدئي، وان تخطياه الى تقديم المشاريع ومحاولة الجمع والضغط الخفيف، لكن ما هي امكانيات او احتمالات اتفاق الفلسطينيين والاسرائيليين مباشرة وبدون الوساطة الاميركية؟ ان مشكلة عرفات والسلطة الفلسطينية الكبرى، التي تختلف عما صادفته حركات التحرير الوطنية العربية وغير العربية الأخرى، هي في ان القضية الفلسطينية لا تخص الفلسطينيين فحسب، بل كل العرب والمسلمين، حتى اذا اراد معالجتها من منطلق فقط فلسطيني اصطدم بالبعد العربي القومي والبعد الاسلامي. اما اذا اراد معالجتها وحلها بالتنسيق والاتفاق مع الدول العربية والاسلامية اصطدم باختلافات هذه الدول مع بعضها بعضا، بل بتباين مواقفها من مصير القدس والشعب الفلسطيني والتعايش او رفض الصلح والتعايش مع اسرائيل.

ان بقاء باراك في الحكم افضل ولا ريب من وصول شارون اليه، لكن ايا كان الحاكم في اسرائيل بعد شهر فإن المباحثات والمفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية لن تتوقف، بل سوف تستمر. لأن خيار الحل السلمي يبقى في نظر العالم افضل من العودة الى الحروب او من حالة اللاحرب واللاسلام. اما الادارة الاميركية الجديدة فإنها لن تخصص كل وقتها لحل النزاع العربي ـ الاسرائيلي، لكنها لن تطوي ملف عملية السلام في الشرق الاوسط، بل ربما سيكون موقفها من هذه العملية اقل عاطفية واكثر عقلانية ولا نستطيع معرفة من مِن الفريقين الفلسطيني والاسرائيلي سوف يكون اسرع في الاستفادة من الاستعداد الجديد في الادارة الاميركية.

ان العصر القادم على العالم والبشرية يختلف عن العصور السابقة، حتى القريبة جدا منا. والعالم القادم، اي عالم الكومبيوتر والانترنت والفضائيات والعولمة قد لا يكون للقضايا القومية والوطنية والعرقية والدينية كبير محل فيه. فكيف بالصراع العربي الاسرائيلي الذي تمتد جذوره آلاف السنين الى الوراء؟ ان التسليم بقيام دولة ـ وطن للشعب الفلسطيني بات واقعا لا ينكره ولا يستطيع انكاره احد، وفي المقدمة اسرائيل. وان انسحاب اسرائيل من الاراضي العربية لا خلاف عليه اليوم او غدا. ومع كل تقديرنا لشعارات العرب الراديكاليين والمسلمين الاصوليين، فإننا لا نرى «ازالة اسرائيل من الوجود» مسألة سهلة او ممكنة او يسمح بها المجتمع الدولي اليوم، لكننا لا نرى سلاما حقيقيا ودائما الا اذا سلمت اسرائيل بحقوق الشعب الفلسطيني والا اذا تخلت تدريجيا عن عقيدتها الصهيونية وتحولت الى دولة ديموقراطية يهودية ـ عربية فعلا. قد يستغرق توصل العرب والاسرائيليين الى الصلح الحقيقي والى التعايش الطبيعي خمسين عاما أخرى او اكثر، لكن السلام هو ما ينتظرهم وليس حربا نووية تقضي عليهما معا.