نظرة سورية إلى لبنان في القرن الجديد: خطوات نحو المستقبل أم رهان على الماضي؟

TT

من أبرز الأحداث المهمة، التي شهدها لبنان عام ألفين، إنكفاء حالة الاحتلال الإسرائيلي من معظم أرضه المحتلة في غزوي عامي 1978 و 1982، دون أن ينجم عن ذلك أي اتفاق يلبي لإسرائيل ما تسميه بالضمانات الأمنية لمستوطناتها الحدودية، التي حاولت فرضها في اتفاق أيار عام 1983، وفي محاولة تعديل تفاهم نيسان عام 1996، وفي تفسيراتها المواربة لقراري مجلس الأمن 425 و426 اللذين غلّفت هزيمتها بهما.

وهذا الانتصار الكبير للبنان، الذي يحتاج للاستكمال بتحرير مزارع شبعا، شكّل رصيداً وطنياً يفترض أن يحفّز لتدعيم الوفاق الوطني عبر حوار داخلي ينأى عن التشنّج والمحاصصة ويوطد حالة السلم الأهلي بعد إعادة بناء مؤسسات الدولة، التي وإن كان أداؤها لا يستجيب أحياناً لمصالح كل الفئات وبخاصة لمن يغيّب نفسه عن المشاركة الإيجابية بذريعة التهميش المتعمّد له، إلا أن السنوات التي أعقبت وقف التحارب الداخلي المدمّر وفّرت مناخاً حقيقياً لمعافاة لبنان وتجنيبه مخاطر التشرذم وبقائه مستباحاً من قبل إسرائيل، بل وفي تلاحم إرادة شعبه وحكومته مع المقاومة لإنجاز هدف التحرير، الذي كان يعتبر ضرباً من الوهم من قبل من يرى في إسرائيل قوة لا تقهر.

ولن نتحدث هنا عن الدور الذي لعبته سورية منذ عام 1976 في وقف تحارب لبنان الداخلي ومنع تمزيقه أرضاً وشعباً وإعادة بناء مؤسساته ودعمه حتى تحرير الجنوب والبقاع الغربي، لأن هذا مجاله في موضوع آخر، إلا أن العلاقة المميزة بين سورية ولبنان ووحدة مساريهما في واقع الأمر كانت الحاضنة الفاعلة التي وفّرت للمقاومة شروط النجاح.

والذي يعنينا هنا، المعطيات التي وفّرها انتصار أيار 2000 في مجالات بدء الحوار الوطني والتطوير الاقتصادي وتنفيذ ما تضمنته معاهدة الاخوة والصداقة اللبنانية ـ السورية والوقوف بوجه أي خروقات مباشرة أو غير مباشرة لفك تلازم المسارين الذي يحمي الطرفين من محاولات الاستفراد بهما واحداً بعد آخر. والحدث البارز الآخر ، رحيل الرئيس حافظ الأسد في العاشر من حزيران، وقد أضاف هذا الرحيل معطيات جديدة لم تخل من إعادة حسابات وتكهنات وتوقعات لدى أوساط لبنانية وعربية ودولية تركزت بشكل أساسي على قدرة الرئيس بشار الأسد في ملء الفراغ، الذي أحدثه غياب والده، وعن طبيعة الدور الذي ستلعبه سورية عربياً وإقليمياً وحيال عملية السلام والعلاقة مع لبنان.

ولم تستغرق الإجابة عن تلك التساؤلات والتكهنات طويلاً، فقد تم انتقال السلطة في سورية بهدوء وبتلاحم وطني وفّر للرئيس بشار التعامل بثقة وفعالية مع مجمل الموضوعات والملفات القائمة، خاصة حيال العلاقات مع لبنان وكيفية الانتقال بها إلى ما يشكّل مثالاً راسخاً يحتذى في العلاقات العربية، بعد إزالة ما يعترضها من شوائب، وبما يعزّز الثقة والتعاون في إطار احترام السيادة الوطنية لكل منهما.

ولكن كيف فسّرت مبادرة الرئيس بشار لاستكمال تطوير العلاقات السورية اللبنانية، وما دلالات تغير المعطيات التي سوّقتها الأوساط بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد؟.

إن الجواب متشعب الجوانب، وفيما وجدت شرائح كثيرة في المبادرة جوانب إيجابية تمهّد لإزالة ما هو سلبي وتطوير ما هو إيجابي، اعتبرت شريحة أو أكثر ان مبادرة الرئيس بشار تعبّر عن ضعف في موقف سورية نتيجة غياب الرئيس حافظ الأسد، وان امتحان هذا الموقف يبدأ بتأخير الحوار الداخلي ومع سورية حتى يتم سحب الجيش السوري من لبنان، الذي بات وجوده برأي البعض غير ضروري بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، بل لم يخف هذا البعض رغباته في التخفيف من حجم الهزيمة الإسرائيلية إذا ما تم انسحاب القوات السورية من لبنان.

ثم تطور اختبار الموقف السوري إثر الانتخابات النيابية اللبنانية بالتشكيك في نزاهة هذه الانتخابات في بعض الدوائر بذريعة التدخل السوري فيها، ولو كان هذا التدخل صحيحاً لما كانت بعض الرموز المعروفة بوطنيتها وعلاقتها الوثيقة مع سورية قد سقطت في الانتخابات، بالإضافة إلى استغلال المنبر النيابي في تعبئة سياسة معادية لسورية لم تقف عند حد المطالبة بسحب القوات السورية، التي يؤكد الرئيس اميل لحود أن وجودها مؤقت وتمليه الضرورات الاستراتيجية طالما لم يتم تحرير شبعا والجولان وطالما لم يتحقق السلام العادل والشامل في المنطقة، بل ذهبت إلى القول بأن استمرار الوجود السوري يفقد لبنان الاستقلال والقرار الحر والسيادة.

وكانت الخطوة التالية التلطي وراء بكركي، لعدم وجود زعامات مسيحية فاعلة، والدفع باتجاه تغيير دورها من موقع ديني إلى مرجعية سياسية منافسة أو بديلة لرئاسة الجمهورية تقوم عن سابق تصوّر أو بدونه إلى إعادة إنتاج النظام اللبناني القائم وفق المخططات التي أعقبت اتفاق سايكس بيكو بزرع دولة يهودية في فلسطين ودولة مسيحية في لبنان تكونان شوكتين بوجه المشروع العربي في إقامة دولتهم القومية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية.

ولا يخفى ما يحمله مثل هذا التوجه، وبعيداً عن نظرية المؤامرة، من أخطار على لبنان وعلى مصادرة انتصاره على إسرائيل وصولاً إلى محاولة هدم سلمه الأهلي بدل التحرك نحو حوار وطني شامل يحصّن لبنان بوجه أخطار لم تزل قائمة، وينتقل بالعلاقات مع سورية إلى مستوى أكثر فعالية في خدمة مصالحهما المشتركة كما يدعو الرئيس بشار إلى ذلك. لكن ما أوردته صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية بتاريخ 30 تشرين الثاني الماضي، على لسان البطريرك الماروني نصر اللّه صفير، بأن لبنان مهدّد بالزوال بسبب الوجود العسكري السوري، الذي يستمر ضد إرادة اللبنانيين، كان مؤشراً يخفي تحت الجلباب ما روّج له بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 عن إقامة المجتمع المسيحي.. وفي مرحلة الجنرال عون عن حرب التحرير ليس ضد إسرائىل وإنما ضد سورية «مكافأة» لها على كل ما قدمته وتقدمه للبنان من إنهاء لتحاربه الداخلي وإعادة بناء مؤسساته ودعم خطواته في مجابهة الاحتلال الإسرائيلي.

فهل هذه هي المعطيات التي تغيّرت ومهّدت للعودة إلى رهانات قديمة وموغلة في القدم، سقط آخرها مع اندحار إسرائيل في لبنان؟، أم أن هناك رهانات جديدة خارج الإطار الوطني تلتقي مع التهديدات الإسرائيلية بحرب إقليمية جديدة؟.. في الوقت الذي تبلور مبادرة الرئيس بشار الأسد في تطوير العلاقات السورية اللبنانية مفاهيم محددة تضيف إلى بناء الرئيس الراحل حافظ الأسد من صلات أخوية لبنات جديدة لاستكمال بناء علاقاتهما المميزة في إطار مؤسساتهما، التي تشكل المرجعية التي لا بديل عنها في أي مرجعية طائفية أو دينية تزعم انها تملك تفويضاً بالتحدث باسم وطن هي جزء منه، وليست ممثلة له، وهي بذلك تلغي الآخر كاشفة عن هشاشة ادعائها بأن منطلقاتها ديمقراطية، وان عدم ممارستها للديمقراطية وفق المقاس الخاص بها يلغي الحرية والهوية والاستقلال ويشكك بإمكانية الدولة في تمثيل الشعب وإدارة حوار داخلي ومع سورية لتصحيح الخلل في العلاقات معها مما ينجم عن ذلك في حسابها إقامة جمهورية جديدة تزيل بجرة قلم مرحلة تاريخية ترفض أن تلعب فيها دوراً إيجابياً يتناسب مع حجمها الحقيقي وبعيداً عن أي رهانات لن تجر على لبنان غير أخطاء تمت إزالة أخطر الألغام فيها في السنوات العشر الماضية.

بعد هذا، هل ثمّة من خيارات للبنان بعد أن حقق سلمه الأهلي وألحق الهزيمة بالمحتل الإسرائيلي غير تحرك جميع فئاته لإنجاز وفاقها تدعيماً لوحدتها الوطنية من أجل استعادة مزارع شبعا ومجابهة الأخطار القائمة في إطار تعميق العلاقات اللبنانية ـ السورية، التي أثبتت جدواها في عدم تفتيت لبنان وارتهان إرادته للمحتل الإسرائيلي، وفي رفضه للتوطين وتمسّكه بتحقيق السلام العادل والشامل في إطار تلازم مساره مع المسار السوري وهو يتقدم بخطى واثقة نحو قرن جديد.. لا يمكن أن تنتقل معه أوزار من تغشى بصائرهم أوهام بأن الزمن لا يسير إلى الأمام.

* كاتب وإعلامي سوري