الدولة مأزومة والهوية مشوشة.. والمجتمع لوحة فسيفسائية

TT

في الأسبوع المقبل، وفي مثل هذا اليوم، ستجرى الانتخابات الإسرائيلية لاختيار رئيس وزراء جديد، فإما إرييل شارون بيديه الملطختين بالدماء وبتاريخه المشين والمخجل، وإما ايهود باراك ببلادته وضيق أفقه وإعاقته السياسية. ويبدو، وفقا لكل التقديرات حتى الآن، أن زعيم حزب «الليكود» سيكون الأوفر حظاً، فالمجتمع الإسرائيلي، الذي يعاني من عقدة الخوف، لا يزال يخشى السلام ولا يريد النزول من أبراج الدبابات والقلاع الاسبارطية المحصنة.

وهكذا، فإذا فاز شارون، وهو سيفوز بالتأكيد إذا لم يبادر حزب العمل في اللحظات الأخيرة إلى استبدال ايهود باراك بشمعون بيريز، وهذه خطوة تبدو صعبة ومستبعدة جداً، فإنه على العرب أن لا يهيّئوا أنفسهم لاحتمال اندلاع حرب جديدة فقط، بل أيضاً للوقوف وقفة جادة عند منعطف مهم بالفعل وتشخيص المأزق الإسرائيلي تشخيصاً دقيقاً لمعرفة إلى أين تتجه هذه الدولة، التي يتوقف على أوضاعها وتوجهاتها الكثير من شؤون وشجون هذه المنطقة.

إن النهر يتغير كل لحظة، مع أن الذي يراقبه يعتقد أنه ثابت لا يتغير، وإسرائيل اليوم هي ليست إسرائيل التي أعلنها «الآباء المؤسسون» في الخامس عشر من مايو (أيار) عام 1948، إنها دولة أخرى مجتمعها غير المجتمع السابق وأمواج الهجرة التي تلاحقت خلال أكثر من نصف قرن من السنوات واختلاط «الفلاشا» الاثيوبيين الأفارقة بالروس القادمين من صقيع سيبيريا واختلاط جميع هؤلاء بقادمين من أربع رياح الأرض، أوجد مجتمعا مفككا بقيم مختلفة وثقافة مشوشة.

في البدايات، عندما أنشئت الدولة الإسرائيلية، وقبل ذلك وبعد ذلك بقليل، كان «الآباء المؤسسون» يسعون لإقامة مجتمع متماسك ثقافته واحدة تستند إلى أساطير وخرافات «التوراة» المزعومة، وتستمد صمودها من إِشْعار الجميع بالاستهداف والخوف من الآخرين، لكن تطورات السنوات اللاحقة، والحروب والهجرات وبروز الهوية الفلسطينية وانتهاء الحرب الباردة، جعلت إسرائيل الحالية غير إسرائيل السابقة وغير إسرائيل التي جرى رسم صورتها حسب المواصفات التوراتية.

لم تصمد العقيدة الصهيونية مطولا أمام المعطيات اللاحقة، وكان أول اهتزاز لهذه العقيدة في حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، إذ بدل أن يتحقق الحلم التوراتي بتمدّد دولة إسرائيل إلى الفرات شرقاً وإلى النيل غربا، أصيب الإسرائيليون بهزّة ضميرية عنيفة وهم يرون جيشهم الذي لا يقهر، يتراجع وأحلامهم التي جاءوا بها إلى فلسطين ترتطم بحقائق تختلف عن الأوهام التي في رؤوسهم.

هذه كانت أول هزة للعقيدة الصهيونية، ثم بعد ذلك تلاحقت الهزات، الدخول إلى بيروت بعقلية المنتصر، الذي يحتل أول عاصمة عربية، ثم الخروج تحت جنح الظلام، واستخدام أشد وأقسى أنواع العنف ضد أول انتفاضة فلسطينية، ثم التسليم بالأمر الواقع والاضطرار للجلوس على طاولة المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية والتفاوض على الأرض التي وصفتها الأساطير التي حُشيت رؤوس الإسرائيليين بها، بأنها الأرض الموعودة.

لم يعد ياسر عرفات ذلك الإرهابي الذي لا حوار معه إلاّ بالرصاص، واضطر جنرال الجيش الإسرائيلي ايهود باراك، الذي ذهب إلى بيروت وتونس لمطاردة القادة الفلسطينيين واصطيادهم إلى الاعتراف بحق لهؤلاء في «الأرض الموعودة» فتهاوت كل مفاهيم «الآباء المؤسسين»، واتسعت دائرة المساومات لتشمل حتى القدس، التي كانوا يقولون إنها ستبقى موحدة وعاصمة إسرائيل إلى الأبد ولتشمل حتى «جبل الهيكل» الذي يعتبرونه قدس الأقداس.

لم تعد إسرائيل هي إسرائيل السابقة، واصطدام مفاهيم السلام المستجدة بالخرافات والأساطير، التي حُشيت بها رؤوس الإسرائيليين عندما أقام «الآباء المؤسسون» دولتهم وقبل ذلك وبعد ذلك، أصاب المجتمع الإسرائيلي بكل هذا الإرباك، الذي تجسد صراعات وخلافات وصلت إلى حد اعتبار اغتيال رئيس الوزراء الأسبق اسحق رابين، الذي كان يعتبر «محرر» القدس وأحد أبطال الوعد التوراتي المزعوم، عملاً بطولياً فذاً، وتجسيداً لمشيئة إله الجند، الذي أغضبته العملية السلمية!.

وهنا وإذا أردنا المزيد من التحديد، فإن كل ما جرى من حرب أكتوبر (تشرين الأول)، إلى غزو لبنان والخروج منها بهزيمة نكراء، إلى الانتفاضة الأولى، والذهاب إلى مدريد، ثم اتفاقيات أوسلو، وكل المحادثات اللاحقة، إلى انتفاضة الأقصى، قد أصاب إسرائيل بأزمة عقائدية حادة، ولذلك فإننا نرى كل هذه الانقسامات والتعارضات في المجتمع وفي الأحزاب كلها اليمين واليسار بدون استثناء.

أصبح الإسرائيليون بعد كل هذه التطورات يتساءلون: إذا كان وجود إسرائيل في هذه المنطقة تجسيداً لرغبة ووعد «إله الجند»، فلماذا إذاً كل هذه المساومات على «الأرض الموعودة»، وعلى القدس، وعلى «جبل الهيكل»؟.. ولماذا يقبل قادتنا التفاوض لعودة اللاجئين الفلسطينيين حتى إلى الضفة الغربية وغزة، إذا كانت هذه هي الأرض التي منحت لليهود وحدهم..؟.

وإلى جانب ذلك، فإن المتنوّرين والأكثر انفتاحا والأقل استسلاما للأساطير والخرافات التاريخية من الإسرائيليين، باتوا يشعرون بتهاوي القيم التي تعلّموها من «الآباء المؤسسين»، بالترافق مع قيام دولة إسرائيل، وهم يرون جنودهم يطاردون الأطفال الفلسطينيين في المدن والقرى وعلى الطرقات ويمزّقون أجسادهم بالرصاص بكل دم بارد.

ولعل ما أدى إلى تعميق أزمة الهوية لدى المجتمع الإسرائيلي، بكل فئاته وأحزابه، أن قانون الهجرة والاستيعاب، الذي بدأت إسرائيل بتطبيقه فور قيامها، والذي طبقته الحركة الصهيونية بالتنسيق والتعاون مع الانتداب البريطاني على فلسطين، قد جلب لهم في السنوات الأخيرة أكثر من مليون مهاجر من روسيا، تشير التقديرات إلى أن نحو أربعين في المائة من هؤلاء من المسيحيين الأرثوذوكس، أصبحوا مجتمعاً قائماً بذاته له لغته وقيمه وصحافته وأحزابه ومفاهيمه ومعتقداته.

لم يعد الإسرائيلي التوراتي يستوعب كيف أن الدولة التي من المفترض أنها دولة اليهود وحدهم، قد تحولت إلى لوحة «اثنية» فسيفسائية فيها القادمون الروس، الذين حملوا معهم كل تأثيرات قيام دولة شيوعية لأكثر من سبعين عاما، وفيها «الفلاشا» الأفارقة، الذين يشعرون بالعزلة وبأن لعنة لونهم الأسود تطاردهم حيثما أقاموا وعملوا، وفيها الفلسطينيون العرب الذين أثبتوا فشل كل محاولات استيعابهم وتجسّدت هويتهم الحقيقية من خلال المشاركة في انتفاضة الأقصى الأخيرة، واختلطت دماء شهداء الناصرة وأم الفحم وشفا عمرو بدماء شهداء جنين وطولكرم والقدس ونابلس ورام اللّه والخليل وقطاع غزة.

لقد أصبح المجتمع الإسرائيلي، «مجتمع الدولة الفاضلة!»، مستودعا للتناقضات والكراهية، فالسود من «الفلاشا» حاقدون، لأنهم يعاملون معاملة دونية، ولأن الاعتراف بيهوديتهم لم يكتمل بعد، والروس يحاولون فرض قناعاتهم ومفاهيمهم وثقافتهم ولغتهم أيضاً على الدولة، والعرب رغم وجود ممثلين لهم في الكنيست الإسرائيلي، يشعرون بأن هذه الدولة ليست دولتهم وأن المواطنة الإسرائيلية مفروضة عليهم بالقوة والقهر.

ومما يزيد الطين بلة، كما يقال، ان الهوة بين المتدينين والعلمانيين وصلت حدود الانقسام في السنوات الأخيرة، فمقابل حركة «شاس» التي غدت بمثابة بيضة القبان بالنسبة لتشكيل الحكومات، سواء كانت «ليكودية» أم «عمالية»، هناك تيار علماني يحاول فرض مشيئته على الدولة والمجتمع الإسرائيلي وينطلق من أن دولة تستند إلى قيم بالية وإلى هذيان تاريخي، لا يمكن أن تصمد أمام معطيات القرن الواحد والعشرين والتطورات التقنية الهائلة.

هناك حرب طاحنة الآن بين هذين التيارين، ولقد وصل الاستقطاب ذروته بين الانعزاليين الانكفائيين، الذين يتعاملون مع الحاضر وينظرون إلى المستقبل من ثقب الأساطير والمفاهيم التوراتية! والتلمودية البالية، وبين العلمانيين الذين يرون بأن لا مستقبل لهذه الدولة ما دام أنها تُحرِّم الخروج من المنازل يوم السبت وتعتبر حركة الطائرات والسيارات في هذا اليوم إلحاداً وتحدياً للتعاليم الإلهية.

ثم وفي هذه الأثناء، وبينما المجتمع الإسرائيلي يعاني من أزمة هوية ومن أزمة قيم ومن تمزق اثني آخذ في الاستفحال، ومن تناحر بين المتدينين وصل حدود المواجهة واغتيال اسحق رابين، بالطريقة المعروفة، جاءت «العولمة» بمفاهيمها واستحقاقاتها لتعمّق المأزق الإسرائيلي ولتجعل هذه الدولة المُهجَّنة المصطنعة أمام خيارين، فإما الذهاب مع عقلية «الغيتو» حتى النهاية والانتحار، وإما القبول بالحقائق التي فرضتها التطورات على صعيد الكون وعلى صعيد المنطقة ومواجهة احتمالات الزوال والاندثار.

لا يمكن التوفيق بين عقلية «الغيتو» واستحقاقات العولمة، ولذلك، وللخروج من هذا المأزق فقط، طرح شمعون بيريز، الذي يعتبر آخر من تبقى من الآباء المؤسسين فكرة الشرق الأوسط الجديد، التي وقف لها المتدينون والتوراتيون في منتصف الطريق وقاومها بنيامين نتنياهو أكثر مما قاومتها الأحزاب والتيارات القومية العربية والتنظيمات الإسلامية.

فهل يوجد ارتباك وتمزق أكثر من هذا الارتباك والتمزق، ولعل ما يجب أخذه بعين الحذر الشديد، بينما لم يبق سوى أسبوع واحد على أخطر انتخابات إسرائيلية على الإطلاق، ان هذا الغليان المتصاعد في المجتمع الاسرائيلي، قد يدفع أي رئيس وزراء إسرائيلي مقبل، وبخاصة إذا كان الذي سيفوز هو إرييل شارون بدمويته، إلى مغامرة عسكرية لتصدير أزمة إسرائيل المتعاظمة إلى الخارج وللسعي لتوحيد الإسرائيليين وتقليص هوّة التباعد بينهم تحت وطأة الخوف والاستهداف.

لا يمكن لهذا الاحتقان الذي يعاني منه المجتمع، الا أن ينفجر بشكل من الأشكال وبطريقة من الطرق، ولذلك وما دام أن المتدينين، بقيادة حركة «شاس» والتيارات الأخرى أصحاب الكفة الراجحة، فإن خطر المغامرة العسكرية، إن في اتجاه لبنان أو في اتجاه سوريا أو العراق، أو في اتجاه السلطة الوطنية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، سيبقى قائما وبخاصة إذا فاز شارون في الانتخابات التي ستجرى يوم الاثنين المقبل.

صحيح ان الحرب لن تحل، على المدى البعيد، الأزمة التي يعاني منها المجتمع الإسرائيلي، وصحيح في ضوء التجربة اللبنانية التي لا تزال ماثلة للعيان وفي ضوء تجربة احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، أن أي مغامرة عسكرية لن تزيد الوضع إلا تأزما وبالتالي فإن المؤكد أنها ستؤدي إلى المزيد من تفاقم المأزق الإسرائيلي، لكن ورغم كل هذه الاحتمالات فإن رجلا بعقلية شارون وبِعُقَدِهِ وبالأساطير التي تعشش في رأسه، من غير المستبعد أن يرتكب حماقة كهذه.. «المهم أنا وعلى الدنيا السلام».

وحتى إذا فاز باراك، فإن انسداد الأفق أمام عملية السلام في ظل مجتمع مأزوم ويعاني من التشرذم ومن أزمة الهوية ومن عقد بحجم الجبال، سيجعل احتمال المغامرة العسكرية واردا، رغم أن النتائج غير مضمونة، ورغم أن التجارب أكدت أن الحرب ليست بنهاياتها السريعة وباحتلال أرض جديدة وإنما بنتائجها البعيدة وانعكاساتها على المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

لا أخطر من أن يصل أي مجتمع من المجتمعات إلى ذروة التوتر والاستقطاب، وبخاصة إذا اقترن ذلك بالقوة وبالعقلية العسكرية الغارقة في نشوة القوة، وهذا ما كان عليه الوضع في كل الفترات التي شنّت فيها إسرائيل حروبها المتلاحقة ضد العرب بما في ذلك غزو لبنان في عام 1982.