العماد عون ومرؤوسه المباشر: إميل لحود

TT

يوم السبت الماضي، نشرت «الشرق الأوسط»، مقابلة أجراها الزميل العزيز شكري نصر الله مع العماد ميشال عون، حول عودته المحتملة أو المرتقبة إلى بيروت. وفي المقابلة، مواقف سياسية كثيرة، بعضها قديم، وبعضها من النوع الذي يثبت دائماً مهارة شكري نصر الله في إثارة القضايا مع محدّثيه. وكل موقف سياسي هو ملك صاحبه، وكل رأي هو ملك قائله. وأنا كمواطن لبناني، لي موقفان من العماد عون: الأول، هو مسألة عودته. وقد كنت ضد فكرة أو مبدأ أو قاعدة النفي، لأنها لا تليق ببلد حتى لو كان خارجاً من الحرب. وأنا ضد أن يبقى العماد عون تحت سيف النفي أو تحت سيف التهديد بالمحاكمة، لأن الحرب هي الحرب، كما يقول الفرنسيون. فإما أن تنطبق نتائجها على الجميع أو لا تنطبق على أحد، لكن لا يجوز أن يختم فصل الحرب بالاستثناءات، مهما كان نوعها، والا اعتبرت الشعوب أن ثمة أعمالاً تبرر وتبارك، وأعمالا تدان. والحرب الأهلية مدانة كلها، بكل يومياتها وتفاصيلها وأبطالها ودعاتها وفلاسفتها ومنظّريها وفصولها. كل من يترك خلفه خراباً وطنياً وجرحاً بشرياً هو إنسان مدان. ولذلك فإن الحل الوحيد للخروج من آثار الحرب هو الحل الأقسى والأقصى والأكثر صعوبة، أي المسامحة والنسيان من أجل البدء من جديد. ومن هذا المنطلق، أنا ضد بقاء العماد عون منفياً حتى في جمال باريس.

هذا بيان وطني وعقلي لا عودة عنه، وثمة بيان آخر، وهو أنني احترمت العماد عون قائداً للجيش وعسكرياً نزيهاً وقمت بزيارته في شقة متواضعة ومستأجرة في «النقَّاش». ولكنني اختلفت معه منذ أن أصبح رئيساً للحكومة المنقسمة ومع أسلوبه، وما أزال إلى اللحظة، اعتقد وأقول، إن هذا الأسلوب السياسي لا يخدم عودة العماد عون ولا لبنان ولا ثقوب الوفاق الوطني ولا جسوره المقطوعة. وللعماد عون، ان يعارض ما ومتى يشاء، فهذا حقه كما قلت، وهذا موقفه، لكن الأسلوب الذي يعتمده واللهجة التي يخاطب بها الناس، لا تليق به كقائد سابق للجيش ولا كرئيس سابق للحكومة.

منذ فترة طويلة لم أعد أكتب في هذا الموضوع، وأصبحت ادفع نفسي بعيداً عن الكتابة في الشؤون اللبنانية. فهي دوّامة لا أريد إغراق القارئ العربي فيها. وأعرف من أسفاري ورحلاتي وصداقاتي في العالم العربي، ان الشأن اللبناني لا يزال يعني الجميع، وربما اليوم أكثر من الأمس. أما «التفاصيل» اللبنانية فلم تعد تعني أحداً، لقد تكرم سفير اليمن في البحرين الاستاذ احمد المتوكل، الأسبوع الماضي وشرفني بزيارته عندما عرف أنني في المنامة. ويقتضي الخلق والتهذيب ألا أقول إنه هو الذي قام بالزيارة بدل أن أقوم أنا بها. لكن ماذا سيقال إذا ذكرنا أن صحافياً من لبنان قام بزيارة سفير اليمن في البحرين خلال زيارة من ثلاثة أيام.

أمضى الاستاذ المتوكل نحو 12 عاما في لبنان سفيرا لبلاده، وكان طبيعياً أن يدور نصف الحديث على الأقل عن لبنان. وقال لي إنه لا يعرف كيف يقيّم تجربته في بيروت. مرة يقول إنها عاصمة الثقافة العربية، ثم يتذكر صوت الرصاص. ومرة يقول إنها مثال الرقيّ، ثم يتذكر المدافع السياسية. ومرة يعجب بالتقاء اللبنانيين وسماحهم وعناقاتهم، ثم يتساءل لماذا يبقى الوفاق اللبناني مستحيلاً. لكن الاستاذ المتوكل توقف عند خاصتين في الشعب اللبناني: الحدة في العناق والحدة في الفراق.

لا بأس، حدة، فلتكن حدة. وأنا هذا الصباح أقرأ مقابلة العماد عون وأنا في الرياض، بعيدا عن تأثيرات بيروت وأجوائها وهواتف الاعتراض أو الترحيب. بدأت أقرأ وقراري بتجنب الكتابة لا يزال معلقاً وماثلاً أمامي. وكنت أقرأ وأقول هذا رأي الرجل وهذا موقفه، لكنني ما لبثت أن توقفت عند الفقرة التالية، قال العماد عون إنه يعرف الرئيس اميل لحود جيدا: «وكان أحد مرؤوسي المباشرين. ولا أدري إذا كان هذا الوضع يولد عنده شعوراً إيجابياً أو سلبياً تجاهي. وأعرف أن لحود ترك وظيفته في الجيش سنة 1990، وكان يشغل منصب مدير إداري في وزارة الدفاع، وغادر المنطقة الشرقية إلى بيروت الغربية بملابس مدنية، وعندما أوقفه حاجز للجيش أمام المتحف اللبناني، أعلمت بالأمر لكنني قلت للضابط المسؤول: دعوه يمر».

لمن هذا الكلام؟ وبأي لغة هو؟، لغة السياسة التي يمارسها العماد عون الآن أم لغة الجندية التي نشأ وترعرع وكبر فيها؟، ماذا يعني أن الرئيس لحود «كان أحد مرؤوسي المباشرين»؟، كل ضابط في العالم مرؤوس مباشر لقائد الجيش. واميل لحود، مثل ميشال عون، دخل الجندية برتبة ملازم وكان يعلوه رتبة آنذاك جميع الضباط، من ملازم أول إلى لواء. وقد مرَّ على ميشال عون على الأقل خمسة قادة للجيش قبل أن يرقى هو ليصبح قائدا بدوره. فالجيش مؤسسة تراتبية لها أصول وقواعد وزمن، وأميل لحود كان مرؤوساً من ستة قادة للجيش، آخرهم ميشال عون، لكن ليس وحده، ولو كنت مكانه لقلت باعتزاز إن اميل لحود كان «مرؤوساً مباشراً». فهذا يدل على نوعية الجيش في قيادته.

ثم ان يكون اميل لحود «مديراً إدارياًَ» في الجيش، فهذه صفة الضباط وهذا عملهم. أين هو الخطأ في الأمر؟، أو أين هي الغرابة؟، أو بالأحرى، هل كان من المفترض أو الأفضل أن يكون على رأس فرقة تقاتل ذات اليمين وذات اليسار، ومن شرفة إلى شرفة، ولا تترك نفقاً إلا وتسدّه ولا تترك مقيماً إلا وتهجره ولا تترك بيتاً إلا وتكتب على جداره: من هنا مرّت الحرب؟

منذ فترة، أي منذ أن طرح موضوع عودة العماد عون إلى لبنان، وهو يدلي بتصريحات متضاربة ومتناقضة. فكلما خرجت إشارة إيجابية من بيروت خفض من حدة تصريحاته، وكلما خرجت إشارة معاكسة عاد عون إلى العنف وإلى «مرؤوسيه المباشرين»، وإلى أن حكومة سليم الحص لم تكن شرعية فيما البلد قطع قطع وقطعان قطعان ولم يبق سوى أن نعرف ان كان سليم الحص شرعياً أم لا؟! كل فترة وأخرى يصدر العماد عون بياناً أو تصريحاً فيه تجريح برئيس الجمهورية. أحياناً يسميه «ساكن بعبدا» وأحيانا يسميه شيئا آخر، وفي اليوم التالي يصدر بيانا آخر يطالب فيه رئيس الدولة بأن يتحمل مسؤولياته ويحسم في موضوع عودته وفي إنهاء الملف المالي الذي يحركه القضاء ضده. ولا أدري لماذا يصر العماد عون على العودة إلى بلد ليس رئيس الجمهورية فيه سوى «ساكن بعبدا» ولا هو أكثر من مرؤوس مباشر لديه، سابقاً طبعاً.

وثمة ما هو أكثر فظاعة من ذلك، فقد عبر الضابط اميل لحود حاجز المتحف «بثياب مدنية». وهذا يدل على ذاكرة قوية عند العماد عون، لكنها انتقائية على نحو مزعج. فهو يعرف أكثر من سواه، انه مضت سنوات طويلة لا يخرج فيها ضباط الجيش بألبستهم الرسمية، وانهم كانوا يتحاشون بذلك المرور على حواجز «القوات اللبنانية»، وهم يرتدون أشرف بزّة يمكن أن يرتديها لبناني ويعلقون أشرف أوسمة استحقاق. ليس من مصلحة أحد أن تفتح ذاكرة الحرب. ولا يعيّر ضابط بسيرته العسكرية وتدرجه. جميع قادة الجيوش بدأوا ملازمين، بمن فيهم مثال العماد عون الأعلى، بونابرت.