دجاجات وقوانين

TT

منذ ان حصل بشار بن برد على دجاجة كاملة من ربابة ربة البيت التي تمزج الخل بالزيت ارتبطت الملكية الفكرية بالشحاذة، وصار كل من يستمتع بالشعر والغناء، ويدفع للشاعر والمغني يظن انه يتصدق عليه أو «يبقشش» مع ان العملية ليست كذلك، وتفسيرها أسهل من قراءة فصل الصدقات عند شيخ الإسلام ابن تيمية، فكل من يقوم بجهد فكري أو فني أو أدبي له الحق في المطالبة بمردود مادي يوازي ذلك الجهد، فول ستوب.

وسواء كان المردود على شكل دجاج وتفاح وزيت وسمك على أيام بشار أو على شكل شيكات بالعملة الصعبة الخضراء على زمن عمرو دياب، فإن مبدأ مقايضة الجهد الفكري والفني والأدبي بالمال من البديهيات التي لا يجوز ان نطيل النقاش حولها، فالناس لا يخترعون البارود كل يوم والذين يحصلون على حقوق مادية كأتعاب على جهودهم العقلية لا يبيعون عقولهم انما بعض انتاج تلك العقول.

لقد وقع الخلط بين حقوق الملكية الفكرية والامتهان والابتذال الفكري لان الكثيرين منا يخلطون بين الجهد الحقيقي الذي يتطلب مكافأة وبين النفاق المبذول لأغراض التكسب. فالثاني من نوع الشحاذة الشرعية، وصاحبه من طبقة الشحاذين والمتسولين، وهؤلاء معاملتهم على حجم الشفقة، وأحياناً على حجم مقدرتهم على الابتزاز. أما النوع المحترم الأول فله قصة أخرى لكن بكل أسف فإن مجتمعاتنا لم تستوعبها بعد، والحق على النوع الثاني الذي لم ينتبه إلى ان عصور المديح والنفاق قد انقرضت، فواصل ممارستها ليسيء إلى نفسه وإلى غيره وخصوصاً حين انتقل المديح التكسبي من الشعر إلى الصحافة في هذا العصر الذي صارت فيه قصائد المديح النثرية بمثابة الدجاج الذي يبيض لأصحابه ذهباً.

ولا أعرف لماذا كلما ذكرت الكتابات الفكرية الرصينة التي تستحق المكافأة، ولا تحصل عليها لماذا أتذكر دائماً المثل الشعبي المصري الذي يلخص المسألة برشاقة بارعة حين يقول: «أولاد الحرام ما خلوش لأولاد الحلال حاجة» فهذا المثل حين يتعلق الأمر بحقوق الملكية الفكرية صحيح حتى النخاع ومؤلم حتى العظم، وحقيقي إلى آخر تخوم الحقيقة.

ان اولاد الحرام والمنافقين والمتسولين الأدبيين والفنيين والفكريين منهم ـ لوثوا مناخ العطاء الإبداعي، وشجعوا على التزلف والنفاق، وبرروا التزييف والقرصنة، وتلاعبوا بسلم القيم لانهم أصلاً لا يعرفون العيش في المناخات الصحية والدقيقة، وذات القوانين الواضحة، ولا يستطيعون الاستمرار إلا من خلال أساليب الشحاذين، وعصابات المافيا، والشللية التي تضع مبدأ المنفعة الشخصية قبل جميع المبادئ.

والنتيجة الطبيعية لهذا المناخ الذي يضخ هواءً فاسداً انه ما من أديب ولو كان بحجم نجيب محفوظ يستطيع العيش من ابداعه الأدبي وما من شاعر ولو كان بحجم محمود درويش يستطيع ان يتقاعد من الوظائف الأخرى، وينتظر ريع كتبه ودواوينه آخر كل شهر ليصرف على نفسه واسرته منها.

وربما كان المغنون والموسيقيون أفضل حالاً من الادباء ومع ذلك فنحن نسمع شهرياً عشرات الشكاوى عن هضم حقوقهم وسرقتهم علناً، وبكل الأساليب. أما المفكرون فهم اكثر بؤساً من أهل الأدب وأهل الفن لأن رقابهم جميعاً بيد دور نشر ترفض الدفع النقدي والعيني حتى وإن كان بأسلوب جارة بشار بن برد التي كانت تجود بما عندها من الزيت والخل.

ان ترسيخ حق الملكية الفكرية والفنية يحتاج إلى استيعاب عقلي واجتماعي قبل ترسيخه بالأوامر الرسمية وتحويله إلى قوانين، وبانتظار ان يحدث ذلك نحتاج إلى عمليات توعية مستمرة لنفرق بين النصاب والصحافي والشحاذ والكاتب والمنافق والمفكر وإن لم ننجح في ذلك فسوف يظل «كله عند العرب صابون».