لوكربي: عودة السياسة

TT

تثير الاحكام القضائية في مسألة «اللوكربي» تداعيات قانونية كثيرة وبعدا سياسيا واحدا. والبعد السياسي هو ما تقوله ليبيا عن كون القضية سياسية في نهاية الامر. وهذا امر طبيعي. فكل قضية جنائية اطرافها ليبيا والدول الغربية، هي في الواقع قضية سياسية، يصعب ان نتبين فيها خيوط الجريمة وخيوط الثأر، او خيوط الفعل وخيوط الرد. وكانت كلما اثيرت قضية اللوكربي عرضت ليبيا على الزائرين الاجانب الدمار الذي الحقته الغارة الاميركية بمنزل العقيد معمر القذافي. فالعداء الليبي ـ الاميركي معروف وواضح ولم تكن طرابلس في حاجة حتى الى تأكيده عبر الهتافات التي اطلقت بعد صدور الحكم.

اذن، البعد السياسي، لا يحل الا بالطرق السياسية. وعبر هذه الطرق حلت ليبيا مشكلة العلاقة مع فرنسا وبريطانيا. فقد استبقت القضاء الفرنسي بقرار التعويض عن ضحايا طائرة «الايتا» التي اسقطت فوق النيجر، من خلال اتفاق مع باريس. كذلك حلت طرابلس المشكلة مع بريطانيا واعيد استئناف العلاقات الدبلوماسية بالتعويض عن مقتل الشرطية فلتشر. لكن العلاقة مع اميركا بقيت على حالها، برغم ما تردد عن مساع ووساطات.

اما الجانب القضائي في المسألة فموضوع آخر تماماً، وان كان من الصعب عزله عن البعد السياسي. ذلك ان اختيار هولندا موقعاً للمحكمة كان قراراً ليبياً. واختيار القضاة الاسكوتلنديين لهيئة المحاكمة كان ايضاً قراراً ليبياً. وكان الهدف من الخطوتين عدم اجراء المحاكمة في الولايات المتحدة، مالكة الطائرة المنكوبة، او في بريطانيا، صاحبة الاجواء. لذلك تم القبول، بعد سنوات، بفكرة انتقال القضاء الاسكوتلندي الى بلد محكمة العدل الدولية، اي اعتماد القانون الاسكوتلندي ارضاء للادعاء، والمكان المحايد ارضاء للدفاع.

ما دامت ليبيا قد قبلت بالمحكمة والمحاكمة اصبح من الصعب رفض الحكم. مع العلم، لمن تابع المجريات، ان الظنون اقوى من الادلة، والشبهات اكثر من القرائن. لكن المحكمة انتقت، او ارتأت، بلغة اهل القانون، ان تخلط الصيف بالشتاء فتبرئ متهماً وتدين آخر. لكن هذه الادانة النصفية ظلت حكماً كاملاً، يستوجب ان تدفع ليبيا التعويضات للضحايا. وربما كان خطأ طرابلس «التقني» في هذه الحال، هو قبولها التعويض على ضحايا الطائرة الفرنسية، مسجلة بذلك السابقة القانونية بنفسها.

واذا كان الباب السياسي قد اغلق فان الباب القضائي مفتوح امام اهل الضحايا. ويسمح القانون الاميركي باجراء محاكمات في اميركا وبأن تحكم المحاكم بدفع التعويضات من اموال الارصدة المجمدة. ومعروف ان لليبيا، وغيرها، ارصدة كبرى في الولايات المتحدة التي مارست التجميد كجزء من الحصار الذي تضربه حول ليبيا ودول اخرى. ومن غرائب هذا الحصار ان اميركا هي التي تستخدم «سلاح النفط» بطريقة معاكسة تماماً. فبدلاً من ان تشهر دول مثل ايران وليبيا والعراق هذا السلاح في وجهها، تستخدم هي السلاح ضد اصحابه.

هل زاد الحكم المسألة تعقيداً ام لا؟ لقد كانت القضية، اولاً واخيراً، قضية الحصار ومعاناة الشعب الليبي. والآن تدور في مبنى الامم المتحدة محادثات بين السفير الليبي وسفراء الدول الكبرى حول رفع العقوبات والغاء قرارات مجلس الامن التي عزلت ليبيا نحو عقد كامل. وقبل صدور الحكم اظهرت طرابلس مهارة واضحة في امتحان ثنايا القانون الدولية. اما بعد صدوره، فقد عاد كل شيء الى بدايته: قضية سياسية يتداولها السفراء بعيداً عن المحاكم، قريباً من الاحكام.