للمستقبل صورة (2 ـ 2 )

TT

ما زال الحديث موصولا عن الضوابط التي نجد فيها سياجا واقيا للمتحاورين من اي انزلاق الى المهاترات والسفسطائية الممقوتة وضياع الوقت، وللقارئ الكريم ان يقدر الضرورة القصوى التي نعولها على هذه الضوابط، فبها وليس بدونها يستمر الحوار ويصل الى مبتغاه. في الجزء الاول من المقال (عدد «الشرق الاوسط» ـ الجمعة 15-2) عرضنا لخمسة من سبعة ضوابط نرى انها ابرز ضوابط الحوار واختلاف الرأي، ونأتي الآن الى الحديث عن الضابطين السادس والسابع.

6 ـ تسخير المتحاورين لخلفياتهم العلمية وقدراتهم الفكرية دون سواها لإقناع الآخرين بوجهات نظرهم:

ان يستخدم المتحاور الحجج ويستعين بالمنطق ويسترشد بالأدلة ويستفيد من البراهين، لتعزيز وجهة نظره وتأكيد صواب رأيه، فذاك مقبول بل مطلوب. اما ان يستغل المتحاور ما يملك من قدرات غير فكرية مثل مكانة او جاه في مجتمعه لفرض وجهة نظره فذاك مرفوض بكل المعايير الاخلاقية، لانه ـ وأيم الله ـ افتئات على الحق، وتجن على المنطق، وافتراء على الفكر، وهدم للأسس التي ترتكز عليها الحوارات وتنطلق منها المناقشات.

ان الامتحان الحقيقي للمتحاورين الذي يملكون تلك القدرات غير الفكرية يكون عندما ينتصر الرأي الآخر على رأيهم، ويجدون انفسهم في وضع تتسلط عليهم فيه اهواؤهم وتتغلب عليهم عنده رغباتهم، فينقادون لها ليثأروا من خصمهم لهزيمة رأيهم، ولدحض وجهة نظرهم، فيلجأون الى ما يملكونه من امكانات ليستخدموها في الكيد والانتقام والايذاء، وهم ان فعلوا ذلك فلأن حججهم في الاقناع كانت ضعيفة فلم تقبل ولأنهم لا يتمتعون كما يتمتع الاسوياء من الناس بأخلاق كريمة ونفوس سمحة وفروسية راقية ونبل اصيل.

7 ـ التزام المتحاورين بالموضوعية والتجرد في عرض الآراء وعدم الإصرار على الانتصار لرأي على حسابهما:

لا بد من الاعتراف بأن التجرد والموضوعية من اهم ركائز الحوار ـ اي حوار ـ، فبغيرهما لا يتوفر حوار مقنع ولا يتحقق نقاش سليم، واولى بالمتحاورين الذين لا يلتزمون بالموضوعية في حواراتهم ولا بالتجرد في نقاشاتهم ان ينصرفوا الى امور غير الحوار والنقاش ليستثمروا اوقاتهم فيها، لانها اجدى لهم وافضل للقارئ وللمستمع.

كيفية الاختلاف .. وثوابت الحوار نصل الآن الى الاجابة عن التساؤل قبل الأخير: كيف يكون الاختلاف؟

نحسب ان لا كيفية معروفة او متوقعة لاختلاف الآراء يمكن تحديدها سلفا وبصورة واضحة قبل ان يبدأ الحوار ويختلف المتحاورون، لأن التباين في الرأي يأتي عادة ضمن الحوار وفي ثناياه بدون مقدمات احيانا وبمقدمات احيانا اخرى.. وبعمق احيانا وبسطحية احيانا اخرى، وفي كل الاحوال فإن المهم أن الخلاف إذا برز بين المتحاورين فلا بد أن تكون له حدود يرسمها له المتحاورون، فلا بد ان تكون له حدود ولا يصح لهم ان يتجاوزوها.

تلك في ظننا واجتهادنا هي من اهم الضوابط التي تتحكم في اي حوار او نقاش، مكتوباً كان أم مسموعاً، فإذا التزم بها المتحاورون زالت من طريقهم اسباب الخلاف في الرأي وواصلوا سيرهم نحو البحث عن الحقيقة حتى يستبين لهم الرشد من الغيّ.

ولكن متى يستبين الرشد للمتحاورين؟

نحسب ان الاجابة عن هذا السؤال تكاد تمثل نقطة الارتكاز للوصول إلى الحقيقة، لذا نجد لزاماً ان نكمل ما بدأناه عن ادب الخلاف فنجيب بين يدي ذلك عن تساؤل مهم هو: ما هي الثوابت التي يجب الالتزام بها عند التحاور؟ في البدء نقول ان الرشد يكون حيث يكون الحق ومرضاة الله، والغيّ يكون حيث يكون الباطل وهوى النفس، ولا سبيل للخروج بالحوار من ظلمات الباطل إلى انوار الحق إلا بالتمسك بثوابته، التي نراها ملزمة لمن يرغب في الحق ويبحث عنه ويرتضيه، وينهى النفس عن الهوى ويبتعد عنه ويجافيه، فلكل حوار ثوابت لا يُسمح بتخطيها إن أُريد له ان يصل إلى هدفه ويحقق مبتغاه. بيد ان هذه الثوابت، التي نعتقد ان الحوار يرتكز عليها وينطلق منها إلى هدفه مهما كان موضوعه. ويمكن ايجاز تلك الثوابت في: المودة، والسماحة، والتواضع، والاحترام، والبعد عن المراء. ومن الضروري التوقف عند كل منها بشيء من التبصر والتدبر ما يستعدي تفصيل المعاني التي تنضوي عليها حتى تستبين للقارئ بوضوح.

* المودة: هي نبراس كل عمل طيب وبداية كل جهد مخلص ووسلية كل انسان متبصر ورمز كل انسان رشيد. وما كانت المودة في شيء إلا زانته وما رافقت معاناة انسان إلا خففتها. تلك هي المودة في اجمل صورها، فاذا صاحبت المتحاورين زادتهم ثباتاً، واذا ارتفقوها جعلتهم اكثر تمكنا للوصول بالحوار إلى منتهاه، واشاعت بينهم الطمأنينة، وطول البال، وهدوء النفس، وطيب الخاطر. فاذا ما اختلفوا فهم اخوة متحابون، ويكون شعارهم هو: «اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية». واذا ما اتفقوا فهم اخوة متضامنون وشعارهم هو: «الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله».

* السماحة: انها عنوان بارز ومضيء لا تتوه عنه العين المبصرة في بحثها عن الانسان السوي الذي اكرمه ربه بحسن الخلق، فتجد ذلك في سمته وفي كلماته وفي تصرفاته وفي حركاته وفي سكناته. فالانسان السمح تأنس لحديثه وترتاح لكلامه وتصغي إليه وانت تتمنى ألا يسكت عن الكلام وألا يتوقف عن الحديث لما في صوته من هدوء نبرات ولما في وجهه من وداعة قسمات ولما في محياه من اشراقات وومضات، لذا تغدو السماحة مطلباً ضرورياً لأي حوار، وثابتاً من ثوابته التي لا غنى عنها للباحثين عن الحقيقة والملتزمين بها والساعين إليها.

قد لا نبالغ ان قلنا ان السماحة من افضل وسائل الاقناع ومن أرقى وسائل التعامل ومن انبل طرائق الاتصال بين الناس لما تتركه في نفس المتلقي من قدرة على الادراك ومقدرة على الفهم وراحة عند الحوار. فالسماحة تعتبر من اخص الخصائص التي يحسن ان يلتزم بها المتحاورون، ونبراسها ومعناها هو ان يقرر المتحاورون سلفاً: ان يقبلوا ما اتفقوا عليه وان يعذر بعضهم بعضاً في ما اختلفوا فيه، وبهذا يضعون حداً لخلافاتهم في الرأي حتى قبل ان تبدأ، فيسير الحوار بعدها سلساً ومتجانساً ويغلب عليه طيب المعشر.

* التواضع: يأتي التواضع كثابت مهم من ثوابت الحوار ليرفع من مكانة صاحبه مهما كانت سعة اطلاعه ومستوى تعليمه. فللتواضع اثر ملموس في الارتقاء بصاحب المكانة الاجتماعية الرفيعة والثقافة العالية والعلم الغزير إلى أسمى موقع في عيون الناس وافئدتهم. فهو عنوان التربية الجيدة والخلق الحسن والمناقب الحميدة والمعدن الاصيل.

وفي الحوار يكون التواضع في ابداء الرأي امضى سلاح بيد المتحاور للإفهام، فبه يتواصل المحاور مع قرنائه ليكسب اهتمامهم، وفي الحوار يكون خفض الجناح لسماع الآخرين ابلغ وسيلة للادراك، وبه ينال تقدير المتحدثين واحترامهم. فالتواضع احسن المعابر للافئدة، وخفض الجناح اقصر الطرق إلى العقول، وحسن الخلق، وسمو التربية من انجع الوسائل لتحقيق الطموحات والوصول إلى التطلعات، وفي هذا يستحسن ان يردد المتحاورون قول الإمام الشافعي رحمه الله: «رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب».

* الاحترام: وإذا كانت المودة والسماحة والتواضع من الثوابت التي لا غنى لأي حوار عنها، فان الاحترام رابع هذه الثوابت ومن اهمها. فبالاحترام يسود الوئام بين المتحاورين وترتقي حواراتهم إلى مدارج التمدن ومستويات التحضر، ويسيطر ادب الحوار في اسمى صوره في التعاملات الانسانية، وابهى اشكاله في الاتصالات الفكرية، وانقى درجاته في اللقاءات الثقافية.

ان احترام المتحاورين لآراء بعضهم البعض مسلك حضاري يُغبطون عليه، وسلوك راقٍ يُحسب لهم، لأن فيه سعة افق وطيب خاطر وعلو همة وثقة في الذات. ويكون الاحترام أدعى والتقدير أجدى عندما يكون هناك تباين في الرأي بين المتحاورين فيكون ديدنهم هو: «قد لا اتفق معك في الرأي لكنني على استعداد للدفاع عنك حتى تتمكن من ابداء رأيك».

* البعد عن المراء: من الثوابت التي تعلمناها من النظام الاخلاقي للاسلام البعد عن المراء. فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: «من ترك المراء وهو مبطل (أي على باطل) بني له بيت في ربض الجنة، ومن تركه وهو محق (أي على حق) بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في اعلاها».

بهذا التوجيه النبوي يجد المسلم نفسه ملزماً بالابتعاد عن المراء الذي غدا ـ للأسف ـ من مظاهر التعامل مع الآخر في كثير من شؤون الحياة. واذا ما كان المراء في حوار يهدف إلى البحث عن الحقيقة، التي هي إما احقاق حق او ابطال باطل، فمن اجدر بتركه من المسلم؟! ان المراء مغالاة في الباطل وغلو فيه وتمسك به، وكل هذا يعني انه في مفاهيم الحوار: عبث، وهراء، ومهاترة، واضاعة للوقت، وتسلط على الحق، وذبح للحقيقة. ولن تجد انساناً سوياً يقبل بالمشاركة في حوار يكون طرفه الآخر مرائيا.

خلاصة في أدب الاختلاف نأمل ان يكون القارئ الكريم قد تابع في جزئي هذا المقال ما حاولنا جهدنا ايضاحه حول معنى الخلاف ومفهوم الاختلاف، وكيف يكون الحوار وما هي غايته. لقد عرضنا ضوابط نظنها قادرة على وضع أي حوار في مساره الصحيح وعلى طريقه السديد، لعل المتحاورين يسترشدون بها في بحثهم عن الحقيقة، التي قلنا انها لا تخرج عن كونها إما احقاق حق او ابطال باطل.

وقد اوجزنا تلك الضوابط في الآتي: تحديد قضية الحوار وتعريفها ووضوح معانيها وضبط مصطلحاتها. معرفة المتحاورين لكل المعلومات المتوفرة عن قضية الحوار. عدم الخروج على ثوابت عقيدة الامة وقيمها. الايمان بأن الحقيقة ليست ملكا مطلقا لطرف دون طرف. عدم اصرار المتحاورين على التمسك بآرائهم بعد ان يتبين لهم عدم صوابها. تسخير المتحاورين لخلفياتهم العلمية وقدراتهم الفكرية دون سواها من مكانة او غيرها لاقناع الآخرين بوجهات نظرهم. التزام المتحاورين بالموضوعية والتجرد في عرض الآراء وعدم الاصرار على الانتصار لرأي على حسابهما.

تلكم كانت اهم الضوابط التي اتضحت لنا لتكون بين يدي أي حوار يمكن ان يدور بين متحاورين ولتعمل كسياج لهم يقيهم الانزلاق الى هوى النفس وسلطان الشهوة، والامل في ان يلتزم بها المشاركون في أي مجادلة وان يعملوا على مكانتها في نفوسهم.

كما اننا حرصنا على ان نذكر بشيء من التفصيل غير المسهب ما اطلقنا عليه ثوابت الحوار التي نعيد تذكير القارئ الكريم بها: المودة، السماحة، التواضع، الاحترام، البعد عن المراء.

وهي كما يلحظ القارئ مجموعة قيم ومرتكزات تراءت لنا ولا غنى لأي متحاور عنها، او هكذا نظن! وقد يكون عند غيرنا ما هو اكثر منها عددا وعدة، فنحن لا ندعي لها الكمال، بل نؤمن بقصورنا في بلوغ مداه في كل عمل وجهد، فالكمال لله وحده جلّت قدرته، ولذا.. فمن لديه افضل مما قلنا واحسن مما ذكرنا فلىأتنا به، ولينشره على الناس لتعم الفائدة ويشمل الخير الجميع.

والآن ماذا بقي من قول نضيفه؟

بقي التأكيد اننا امة تؤمن بأن الكلمة الطيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء، وان الحكمة ضالة المؤمن، وان الرفق في القول والعمل من مقومات الحياة الطيبة، فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما خُير نبينا عليه الصلاة والسلام بين أمرين إلا اختار ارفقهما، ونؤمن بأن الحوار والمجادلة يكونان بالتي هي أحسن، وان في القول السديد صلاح الافعال والاحوال.

من اجل هذا كله نجد لزاما علينا ان ندعو كل مشارك في حوار، او راغب في التعبير عن رأي، او حريص على إبلاغ وجهة نظر لآخرين الى:

ـ ان يصطحب معه ضوابط الحوار ويعمل بها..

ـ وان يؤمن بثوابت المجادلة وينصاع لها..

ـ وان يعلم علم اليقين ان الرجال يدورون مع الحق، حيث يدور، ولا يدور الحق حيث يدور الرجال.. وان الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال.

والله من وراء القصد، وهو الهادي الى سواء السبيل، ولو شاء لهدى الناس اجمعين.

* عضو مجلس الشورى السعودي